فالذين استجابوا لدعوة نوح ، كانوا من الذين لم تقم لهم فى مجتمعهم رياسة ، أو تقع لأيديهم سلطة ، يخشون عليها من هذا الطارق الجديد ، الذي يطرقهم بتلك الدعوة ، التي يخشى منها أرباب الجاه والسلطان ، أن تكون سببا فى تغيّر الأحوال التي اطمأنوا إليها ، وشدّوا أيديهم عليها ..
وهكذا ، يكون الموقف دائما فى مواجهة كل جديد ، يطلع على الناس .. فأصحاب الجاه والسيادة والسلطان ، يتصدّون له ، ويقفون فى وجهه ، لأنه غالبا لا يطلع عليهم إلا بما يبدّل من أحوالهم ، ويغيّر من أوضاعهم .. أما من لا سلطان لهم ولا جاه ، فإنهم يستقبلون الجديد ، وينظرون فيه نظرا غير محجوز بهذه الحواجز التي يقيمها المال والجاه والسلطان ، بين أهله وبين كل جديد ..
ـ وفى قولهم : (بادِيَ الرَّأْيِ) إشارة إلى أن الذين انبعوا نوحا هم ـ فى نظر أصحاب السيادة والسلطان ـ من أراذل القوم ، الذين لا يخفى أمرهم على أحد ، ولا يحتاج التعرف عليهم إلى بحث ونظر ، بل إن النظرة الأولى تحدّث عنهم ، وتمسك بهم! فلا خلاف بين القوم على منزلتهم الاجتماعية فيهم ، وأنهم بحكم فقرهم وضعفهم ، موضوعون فى أدنى درجات السّلّم الاجتماعى! هكذا ينظر إليهم القوم ، وهكذا يحكمون عليهم ..
ـ وفى قوله تعالى : (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) تأكيد للرأى الذي رآه القوم فى نوح وفيمن اتبعه ، وأنه لا فضل لنوح والذين معه على القوم ، فكيف يدعونهم إلى متابعتهم ، والتابع من شأنه أن يكون دون المتبوع ووراءه .. فهل يعقل ـ والأمر كذلك ـ أن يكون نوح ومن معه متبوعين ، ويكون القوم أتباعا لهم؟
ثم لا يكتفى القوم بهذا ، بل يرمون نوحا ومن اتبعه بالكذب والبهتان