منها الرائي ، الواقع كما هو ، بل يراه كدلالة من دلالات الواقع ، أو إشارة من إشاراته.
وانظر كيف كان تدبير الله ، لما أراد من إنفاذ ما أراده ، وإيقاع ما قضى بوقوعه ..
فلقد أراد ـ سبحانه ـ أن يلتحم الفريقان فى القتال ، وأن يغرى كلّ من الفريقين بصاحبه ، وأن يحمله الطمع فى الظفر به على خوض المعركة معه ، وإبلاء بلائه فيها ..
فالمسلمون يرون عدوّهم فى قلّة ظاهرة .. قلّة فى العدد ، وقلّة فى البلاء والقدرة على احتمال صدمة المسلمين لهم .. وهذا ما يثبّت أقدام المسلمين فى القتال ، ويربط على قلوبهم فى المواجهة ، ويطمعهم فى عدوّهم ويغريهم به .. ولو أنهم رأوا المشركين على ما هم عليه فى ظاهرهم لزلزلت أقدامهم ، واضطربت قلوبهم ، ولربّما فرّوا من وجه عدوّهم ، واستسلموا له من غير قتال .. (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) ..
وأما المشركون فقد أراهم الله المسلمين على ما هم عليه من قلّة ، وربّما رأوهم فى أعينهم أقلّ من هذه القلّة التي كانوا عليها ..
وهذا من شأنه أن يبعث فى نفوس المشركين ، أو فى كثير منهم ، مشاعر الاستخفاف بالمسلمين ، وعدم المبالاة بهم ، وأخذ الحذر منهم .. وبهذا يفوتهم كثير من إحكام التدبير ، كما تتخلّى عنهم كثير من مشاعر الخوف التي تحمل الإنسان على استجماع قواه ، واستخراج كل رصيد فى كيانه لدفع الخطر الذي يتهدده!
وهكذا يصنع الله لأوليائه ، فيمكّن لهم من أسباب النّصر ، ثم يضيف هذا النّصر إليهم ، ويدخله فى حسابهم .. : (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)