وقت نزول هذه السورة ، المجمع على أنها مكية .. ويقوّى من هذا الإجماع على مكيتها ، أن اليهود لم يواجهوا فيها مواجهة صريحة متحدّية.
وثانيا : أن النبىّ أعفّ وأكرم من أن يجابه حبرا ، هذه المجابهة ، التي لا تكشف عن غرض إلا سبّ هذا الحبر ، وحقره ، وما كان النبىّ سبّابا ولا لعّانا ، ولا فاحشا ، ولا متفحشا ، بل كان فى جميع أحواله على هذا الوصف الكريم الذي وصفه الله به : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).
ثالثا : جاء فى الآية : (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) .. واليهود الذين عاصروا النبىّ لم يعلّموا ما لم يعلموا هم ولا آباؤهم .. بل كانوا أسوأ حالا ، وأكثر غباء وجهلا مما كان عليه آباؤهم ، حين واجههم القرآن.
ورابعا : غير مستساغ عقلا أن يقول اليهود مثل هذا القول ، وأن يقوله حبر منهم ، وبين أيديهم التوراة التي لا يختلفون أنها نزلت على موسى ، بل وبين أيديهم أسفار أنبياء كثيرين ضمتها التوراة ، والتي أطلق عليها «العهد القديم» .. ثم كيف يقول الحبر هذا القول والرسول الكريم يسأله بحق الذي أنزل التوراة على موسى؟
والذي نطمئن إليه فى فهم هذه الآية ، أن المخاطبين بها هم هؤلاء المشركون من أهل مكة.
وأن الله سبحانه وتعالى ينكر عليهم قولهم : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) إذا كان ذلك من مقولاتهم التي يعذرون بها لأنفسهم فى انصرافهم عن النبىّ وتكذيبهم له ، كما يقول الله تعالى عنهم : (أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ؟ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) (٢٤ : القمر) وقوله سبحانه : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً؟) (٩٤ : الإسراء).