قوله تعالى : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) أي : لم يجعل فيه اختلافا ، وقد سبق بيان العوج في سورة آل عمران (١). قوله تعالى : (لِيُنْذِرَ بَأْساً) أي : عذابا شديدا ، (مِنْ لَدُنْهُ) أي : من عنده ، ومن قبله ، والمعنى : لينذر الكافرين (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : بأنّ لهم (أَجْراً حَسَناً) وهو الجنّة. (ماكِثِينَ) أي : مقيمين ، وهو منصوب على الحال. (وَيُنْذِرَ) بعذاب الله (الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) وهم اليهود حين قالوا : عزير ابن الله ، والنّصارى حين قالوا : المسيح ابن الله ، والمشركون حين قالوا : الملائكة بنات الله ، (ما لَهُمْ بِهِ) أي : بذلك القول (مِنْ عِلْمٍ) لأنهم قالوا افتراء على الله ، (وَلا لِآبائِهِمْ) الذين قالوا ذلك ، (كَبُرَتْ) أي : عظمت (كَلِمَةً) الجمهور على النّصب. وقرأ ابن مسعود ، والحسن ، ومجاهد ، وأبو رزين ، وأبو رجاء ، ويحيى بن يعمر ، وابن محيصن ، وابن أبي عبلة : «كلمة» بالرفع. قال الفرّاء : من نصب ، أضمر : كبرت تلك الكلمة كلمة ، ومن رفع ، لم يضمر شيئا ، كما تقول : عظم قولك. وقال الزّجّاج : من نصب ، فالمعنى : كبرت مقالتهم : اتّخذ الله ولدا كلمة ، و «كلمة» منصوب على التّمييز. ومن رفع ، فالمعنى : عظمت كلمة هي قولهم : اتّخذ الله ولدا.
قوله تعالى : (تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) أي : إنها قول بالفم لا صحّة لها ، ولا دليل عليها ، (إِنْ يَقُولُونَ) أي : ما يقولون (إِلَّا كَذِباً) ثم (٢) عاتبه على حزنه لفوت ما كان يرجو من إسلامهم ، فقال : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) وقرأ سعيد بن جبير ، وأبو الجوزاء ، وقتادة : «باخع نفسك» بكسر السين ، على الإضافة. قال المفسّرون واللغويون : فلعلّك مهلك نفسك ، وقاتل نفسك ، وأنشد أبو عبيدة لذي الرّمّة :
ألا أيّهذا الباخع الوجد نفسه |
|
لشيء نحته عن يديه المقادر |
أي : نحّته. فإن قيل : كيف قال : (فَلَعَلَّكَ) والغالب عليها الشّكّ ، والله عالم بالأشياء قبل كونها؟ فالجواب : أنها ليست بشكّ ، إنما هي مقدّرة تقدير الاستفهام الذي يعني به التّقرير ، فالمعنى : هل أنت قاتل نفسك؟! لا ينبغي أن يطول أساك على إعراضهم ، فإنّ من حكمنا عليه بالشّقوة لا تجدي عليه الحسرة ؛ ذكره ابن الأنباري. قوله تعالى : (عَلى آثارِهِمْ) أي : من بعد تولّيهم عنك (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) يعني القرآن (أَسَفاً) وفيه أربعة أقوال : أحدها : حزنا ، قاله ابن عباس ، وابن قتيبة. والثاني : جزعا ، قاله مجاهد. والثالث : غضبا ، قاله قتادة. والرابع : ندما ، قاله السّدّيّ. وقال أبو عبيدة : ندما وتلهّفا وأسى. قال الزّجّاج : الأسف : المبالغة في الحزن ، أو الغضب ، يقال : قد أسف الرجل ، فهو أسيف ، قال الشاعر :
أرى رجلا منهم أسيفا كأنّما |
|
يضمّ إلى كشحيه كفّا مخضبا (٣) |
__________________
(١) سورة آل عمران : ٩٩.
(٢) قال ابن كثير رحمهالله في «تفسيره» ٣ / ٩٣ : يقول تعالى مسليا رسوله صلىاللهعليهوسلم في حزنه على المشركين ، لتركهم الإيمان وبعدهم عنه ، كما قال تعالى : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) وقال : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ). ولهذا قال (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) أي : لم يؤمنوا بالقرآن ، يقول : لا تهلك نفسك أسفا ، أي لا تأسف عليهم ، بل أبلغهم رسالة الله ، فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها.
(٣) البيت للأعشى الكبير ميمون بن قيس كما في «ديوانه» : ١١٥ و «اللسان» مادة ـ أسف ـ يقول : كأن يده قطعت فاختضبت بدمها ، والأسف هو الغضبان وقد يكون الأسيف : الغضبان مع الحزن.