فنبعت عين فشرب منها ؛ وعلى هذا جمهور العلماء أنه ركض ركضتين فنبعت له عينان ، فاغتسل من واحدة ، وشرب من الأخرى.
قوله تعالى : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) كان قد حلف لئن شفاه الله ليجلدنّ زوجته مائة جلدة.
وفي سبب هذه اليمين ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنّ إبليس جلس في طريق زوجة أيّوب كأنه طبيب ، فقالت له : يا عبد الله ، إنّ ها هنا إنسانا مبتلى ، فهل لك أن تداويه؟ قال : نعم ، إن شاء شفيته ، على أن يقول إذا برأ : أنت شفيتني ، فجاءت فأخبرته ، فقال : ذاك الشيطان ، لله عليّ إن شفاني أن أجلدك مائة جلدة ، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس. والثاني : أنّ إبليس لقيها فقال : إنّي أنا الذي فعلت بأيّوب ما به ، وأنا إله الأرض ، وما أخذته منه فهو بيدي ، فانطلقي أريك ، فمشى بها غير بعيد ، ثم سحر بصرها ، فأراها واديا عميقا فيه أهلها وولدها ومالها ، فأتت أيّوب فأخبرته ، فقال : ذاك الشيطان ، ويحك كيف وعى قوله سمعك ، والله لئن شفاني الله عزوجل لأجلدنّك مائة ، قاله وهب بن منبّه. والثالث : أنّ إبليس جاء إلى زوجته بسخلة ، فقال : ليذبح لي هذه وقد برأ فأخبرته فحلف ليجلدنّها ، وقد ذكرنا هذا القول في سورة الأنبياء عن الحسن. فأمّا الضّغث ، فقال الفرّاء : هو كلّ ما جمعته من شيء مثل الحزمة الرّطبة ، قال : وما قام على ساق واستطال ثم جمعته ، فهو ضغث. وقال ابن قتيبة : هو الحزمة من الخلال والعيدان. قال الزّجّاج : هو الحزمة من الحشيش والرّيحان وما أشبهه. قال المفسّرون : جزى الله زوجته بحسن صبرها أن أفتاه في ضربها فسهّل الأمر ، فجمع لها مائة عود ، وقيل : مائة سنبلة ، وقيل : كانت أسلا ، وقيل : من الإذخر ، وقيل : كانت شماريخ ، فضربها بها ضربة واحدة ولم يحنث في يمينه. وهل ذلك خاصّ له ، أم لا؟ فيه قولان : أحدهما : أنه عامّ ، وبه قال ابن عباس ، وعطاء بن أبي رباح وابن أبي ليلى. والثاني : أنه خاصّ لأيّوب ، قاله مجاهد.
فصل : وقد اختلف الفقهاء فيمن حلف أن يضرب عبده عشرة أسواط فجمعها كلّها وضربه بها ضربة واحدة ، فقال مالك ، واللّيث بن سعد : لا يبرّ ، وبه قال أصحابنا. وقال أبو حنيفة والشّافعيّ : إذا أصابه في الضّربة الواحدة كلّ واحد منها ، فقد برّ واحتجّوا بعموم قصّة أيّوب عليه الصلاة والسلام.
__________________
(١) هذه الأقوال باطلة ، والخبر بطوله من الإسرائيليات. وقال ابن العربي : ولم يصح عن أيوب في أمره إلا ما أخبرنا الله عنه في كتابه في آيتين الأولى قوله تعالى : (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) الأنبياء : ٨٣ والثانية في ص : (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) وأما النبي صلىاللهعليهوسلم فلم يصح عنه أنه ذكره بحرف واحد إلا قوله : «نبيا أيوب يغتسل إذ خرّ عليه رجل من جراد من ذهب» الحديث ـ أخرجه البخاري ٢٧٩ و ٣٣٩٣ وغيره من حديث أبي هريرة.
وإذ لم يصح عنه فيه قرآن ولا سنة إلا ما ذكرناه ، فمن الذي يوصل السامع إلى أيوب خبره ، أم على أي لسان سمعه؟ والإسرائيليات مرفوضة عند العلماء على البتات ، فأعرض عن سطورها بصرك ، واصمم عن سماعها أذنيك ، فإنها لا تعطي فكرك إلا خيالا ، ولا تزيد
فؤادك إلا خبالا. وفي «الصحيح» واللفظ للبخاري أن ابن عباس قال : يا معشر المسلمين! تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيكم أحدث الأخبار بالله ، تقرؤونه محضا لم يشب ، وقد حدثكم أن أهل الكتاب قد بدّلوا من كتب الله وغيروا وكتبوا بأيديهم الكتب ؛ فقالوا : (هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) ولا ينهاكم عما جاءكم من العلم عن مسألتهم ، فلا والله ما رأينا رجلا منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم ، وقد أنكر النبي صلىاللهعليهوسلم في حديث الموطأ على عمر قراءته التوراة.