قوله تعالى : (كُلَّما خَبَتْ) قال ابن عباس : أي : سكنت. قال المفسّرون : وذلك أنهم تأكلهم ، فإذا لم تبق منهم شيئا وصاروا فحما ولم تجد شيئا تأكله ، سكن ، فيعادون خلقا جديدا ، فتعود لهم. وقال ابن قتيبة : يقال : خبت النار : إذا سكن لهبها. فاللهب يسكن ، والجمر يعمل ، فإن سكن اللهب ، ولم يطفأ الجمر ، قيل : خمدت تخمد خمودا ، فإن طفئت ولم يبق منها شيء ، قيل : همدت تهمد همودا. ومعنى (زِدْناهُمْ سَعِيراً) : نارا تتسعّر ، أي تتلهّب. وما بعد هذا قد سبق تفسيره (١) إلى قوله تعالى : (قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) أي : على أن يخلقهم مرّة ثانية ، وأراد ب «مثلهم» إيّاهم ، وذلك أنّ مثل الشيء مساو له ، فجاز أن يعبّر به عن نفس الشيء ، يقال : مثلك لا يفعل هذا ، أي : أنت ، ومثله قوله تعالى : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) (٢) وقد تمّ الكلام عند قوله تعالى : (مِثْلَهُمْ) ، ثم قال : (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ) يعني : أجل البعث (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) أي : جحودا بذلك الأجل. قوله تعالى : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) قال الزّجّاج : المعنى : لو تملكون أنتم ، قال المتلمس :
ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي |
|
نصبت لهم فوق العرانين ميسما (٣) |
المعنى : لو أراد غير أخوالي.
وفي هذه الخزائن قولان : أحدهما : خزائن الأرزاق. والثاني : خزائن النّعم.
فيخرج في الرّحمة قولان : أحدهما : الرّزق. والثاني : النّعمة. وتحرير الكلام : لو ملكتم ما يملكه الله عزوجل لأمسكتم عن الإنفاق خشية الفاقة. (وَكانَ الْإِنْسانُ) يعني : الكافر (قَتُوراً) أي : بخيلا ممسكا ؛ يقال : قتر يقتر ، وقتر يقتر : إذا قصّر في الإنفاق. وقال الماوردي : لو ملك أحد من المخلوقين من خزائن الله تعالى ، لما جاد كجود الله تعالى ، لأمرين : أحدهما : أنه لا بدّ أن يمسك منه لنفقته ومنفعته. والثاني : أنه يخاف الفقر ، والله تعالى منزّه في جوده عن الحالين.
ثم إنّ الله تعالى ذكر إنكار فرعون آيات موسى ، تشبيها بحال هؤلاء المشركين ، فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ) وفيها قولان : أحدهما : أنها بمعنى المعجزات والدّلالات ، ثم اتّفق جمهور المفسّرين على سبع آيات منها ، وهي : يده ، والعصا ، والطّوفان ، والجراد ، والقمّل ، والضّفادع ، والدّم ، واختلفوا في الآيتين الآخرتين على ثمانية أقوال : أحدها : أنهما لسانه والبحر الذي فلق له ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ؛ يعني بلسانه : أنه كان فيه عقدة فحلّها الله تعالى له. والثاني : البحر والجبل الذي نتق فوقهم ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثالث : السّنون ونقص الثّمرات ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والشّعبيّ ، وعكرمة ، وقتادة. وقال الحسن : السّنون ونقص الثّمرات آية واحدة. والرابع : البحر والموت أرسل عليهم ، قاله الحسن ، ووهب. والخامس : الحجر والبحر ، قاله سعيد بن جبير. والسادس : لسانه وإلقاء العصا مرّتين عند فرعون ، قاله الضّحّاك. والسابع : البحر والسّنون ، قاله محمّد بن كعب. والثامن : ذكره محمّد بن إسحاق عن محمد بن كعب أيضا ، فذكر السّبع الآيات الأولى ، إلّا أنه جعل مكان يده البحر ، وزاد الطّمسة والحجر ، يعني قوله تعالى : (اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ).
__________________
(١) الإسراء : ٤٩.
(٢) سورة البقرة : ١٣٧.
(٣) في «اللسان» : نقيصتي : ظلمي ـ العرانين : الأنوف ـ والميسم : آلة الوسم بالنار.