يعلمونهم ذلك ، وليس الإقرار الأول ممّا يقع به حكم ولا ثواب ، وقد ذكر نحو هذا أبو بكر الأثرم ، واستدلّ عليه بأنّ الناس أجمعوا على أنه لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم ، ثم أجمعوا على أنّ اليهوديّ إذا مات له ولد صغير ورثه ، وكذلك النّصرانيّ ، والمجوسيّ ، ولو كان معنى الفطرة الإسلام ، ما ورثه إلّا المسلمون ، ولا دفن إلّا معهم ، وإنما أراد بقوله عليهالسلام : «كلّ مولود يولد على الفطرة» أي : على تلك البداية التي أقرّوا له فيها بالوحدانيّة حين أخذهم من صلب آدم ، فمنهم من جحد ذلك بعد إقراره. ومثل هذا الحديث حديث عياض بن حمار عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال :
(١١٠٠) «قال الله عزوجل : إني خلقت عبادي حنفاء» ، وذلك أنه لم يدعهم يوم الميثاق إلّا إلى حرف واحد ، فأجابوه.
قوله تعالى : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) لفظه لفظ النّفي ، ومعناه النّهي ؛ والتقدير : لا تبدّلوا خلق الله عزوجل ، وفيه قولان : أحدهما : أنه خصاء البهائم ، قاله عمر بن الخطّاب رضي الله عنه. والثاني : دين الله عزوجل ، قاله مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والنّخعيّ في آخرين ، وعن ابن عباس وعكرمة كالقولين. قوله تعالى : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) يعني التّوحيد المستقيم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) يعني كفّار مكّة (لا يَعْلَمُونَ) توحيد الله عزوجل.
قوله تعالى : (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) قال الزّجّاج : زعم جميع النّحويين أنّ معنى هذا : فأقيموا وجوهكم منيبين ، لأنّ مخاطبة النبيّ صلىاللهعليهوسلم تدخل معه فيها الأمّة ، ومعنى «منيبين» : راجعين إليه في كلّ ما أمر ، فلا يخرجون عن شيء من أمره. وما بعد هذا قد سبق تفسيره (١) إلى قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) وفيه قولان : أحدهما : أنه القحط ، والرّحمة : المطر. والثاني : أنه البلاء ، والرّحمة : العافية ، (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) وهم المشركون. والمعنى : إنّ الكلّ يلتجئون إليه في
____________________________________
(١١٠٠) صحيح. أخرجه مسلم ٢٨٦٥ وعبد الرزاق في «المصنف» ٢٠٠٨٨ وأحمد ٤ / ١٦٢ و ٢٦٦ والطيالسي ١٠٧٩ والطبراني ١٧ / ٩٨٧ و ٩٩٢ ـ ٩٩٧ والبغوي ٤١٠٥ والبيهقي ٩ / ٦٠ وابن حبان ٦٥٣ من طرق عن قتادة.
والحديث بتمامه بلفظ مسلم عن عياض بن حمار المجاشعي : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال ذات يوم في خطبة : «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني ، يومي هذا كل مال نحلته عبدا ، حلال. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم. وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم. وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب.
وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء. تقرؤه نائما ويقظان. وإن الله أمرني أن أحرّق قريشا. فقلت : رب! إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة. قال : استخرجهم كما استخرجوك واغزهم نغزك وأنفق فسننفق عليك وابعث جيشا نبعث خمسة مثله. وقاتل بمن أطاعك من عصاك قال : وأهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط متصدق موفق. ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم. وعفيف متعفف ذو عيال قال : وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زبر له ، الذين هم فيكم تبعا لا يتبعون أهلا ولا مالا. والخائن الذي لا يخفى له طمع ، وإن دقّ إلا خانه ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك».
ومعنى لا يخفى : لا يظهر ويقول أهل اللغة خفيت الشيء إذا أظهرته وأخفيته إذا سترته وكتمته.
__________________
(١) البقرة : ٣ ، الأنعام : ١٥٩.