وفي المراد بقوله : (مَهْجُوراً) قولان : أحدهما : متروكا لا يلتفتون إليه ولا يؤمنون به ، وهذا معنى قول ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : هجروا فيه ، أي : جعلوه كالهذيان ، ومنه يقال : فلان يهجر في منامه ، أي : يهذي ، قاله ابن قتيبة. وقال الزّجّاج : الهجر : ما لا ينتفع به من القول : قال المفسّرون : فعزّاه الله عزوجل ، فقال : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) أي : كما جعلنا لك أعداء من مشركي قومك ، جعلنا لكلّ نبيّ عدوّا من كفّار قومه ؛ والمعنى : لا يكبرن هذا عليك ، فلك بالأنبياء أسوة (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً) لك (وَنَصِيراً) يمنعك من عدوّك. قال الزّجّاج : والباء في قوله : (بِرَبِّكَ) زائدة ؛ فالمعنى : كفى ربّك هاديا ونصيرا.
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤))
قوله تعالى : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) أي : كما أنزلت التّوراة والإنجيل والزّبور ، فقال الله عزوجل : (كَذلِكَ) أي : أنزلناه كذلك متفرّقا ، لأنّ معنى ما قالوا : لم نزّل عليه متفرّقا؟ فقيل : إنما أنزلناه كذلك (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) أي : لنقوّي به قلبك فتزداد بصيرة ، وذلك أنه كان يأتيه الوحي في كلّ أمر وحادثة ، فكان أقوى لقلبه وأنور لبصيرته وأبعد لاستيحاشه ، (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) أي : أنزلناه على التّرتيل ، وهو التّمكّث الذي يضادّ العجلة.
قوله تعالى : (وَلا يَأْتُونَكَ) يعني المشركين (بِمَثَلٍ) يضربونه لك في مخاصمتك وإبطال أمرك (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ) أي : بالذي هو الحقّ لنردّ به كيدهم (وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) من مثلهم ؛ والتفسير : البيان والكشف. قال مقاتل : ثم أخبر بمستقرّهم في الآخرة ، فقال : (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ) وذلك أنّ كفّار مكّة قالوا : إنّ محمّدا وأصحابه شرّ خلق الله ، فنزلت هذه الآية. قوله تعالى : (أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً) أي : منزلا ومصيرا (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) دينا وطريقا من المؤمنين.
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩))
قوله تعالى : (اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا). إن قيل : إنما عاينوا الآيات بعد وجود الرسالة ، فكيف يقع التّكذيب منهم قبل وجود الآيات؟ فالجواب : أنهم كانوا مكذّبين أنبياء الله وكتبه
____________________________________
وترك العمل به من امتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه ، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره ، من هجرانه. فنسأل الله الكريم المنان القادر على ما يشاء ، أن يخلصنا مما يسخطه ، ويستعملنا فيما يرضيه ، من حفظ كتابه وفهمه ، والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطراف النهار ، على الوجه الذي يحبه ويرضاه ، إنه كريم وهّاب.