جريرة ، ثم لجأ إليها ، لم يتناول. والثالث : قياما لبقاء الدّين ، فلا يزال في الأرض دين ما حجّت واستقبلت ، قاله الحسن. والرابع : قوام دنيا وقوام دين ، قاله أبو عبيدة. والخامس : قياما للناس ، أي : ممّا أمروا أن يقوموا بالفرض فيه ، ذكره الزجّاج. والسادس : قياما لمعايشهم ومكاسبهم بما يحصل لهم من التّجارة عندها ، ذكره بعض المفسّرين.
فأما الشّهر الحرام ، فالمراد به الأشهر الحرم ، كانوا يأمن بعضهم بعضا فيها ، فكان ذلك قواما لهم ، وكذلك إذا أهدى الرجل هديا أو قلّد بعيره أمن كيف تصرّف ، فجعل الله تعالى هذه الأشياء عصمة للناس بما جعل في صدورهم من تعظيمها.
قوله تعالى : (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا) ذكر ابن الأنباريّ في المشار إليه بذلك أربعة أقوال :
أحدها : أن الله تعالى أخبر في هذه السورة بغيوب كثيرة من أخبار الأنبياء وغيرهم ، وأطلع على أشياء من أحوال اليهود والمنافقين ، فقال : ذلك لتعلموا ، أي : ذلك الغيب الذي أنبأتكم به عن الله يدلّكم على أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، ولا تخفى عليه خافية.
والثاني : أنّ العرب كانت تسفك الدّماء بغير حلّها ، وتأخذ الأموال بغير حقّها ، ويقتل أحدهم غير القاتل ، فإذا دخلوا البلد الحرام ، أو دخل الشّهر الحرام ، كفّوا عن القتل. والمعنى : جعل الله الكعبة أمنا ، والشهر الحرام أمنا ، إذ لو لم يجعل للجاهليّة وقتا يزول فيه الخوف لهلكوا ، فذلك يدلّ على أنه يعلم ما في السّماوات وما في الأرض.
والثالث : أنّ الله تعالى صرف قلوب الخلق إلى مكّة في الشّهور المعلومة ، فإذا وصلوا إليها عاش أهلها معهم ، ولو لا ذلك ماتوا جوعا ، لعلمه بما في ذلك من صلاحهم ، وليستدلّوا بذلك على أنه يعلم ما في السّماوات وما في الأرض.
والرابع : أنّ الله تعالى جعل مكّة أمنا ، وكذلك الشّهر الحرام ، فإذا دخل الظّبي الوحشيّ الحرم ، أنس بالناس ، ولم ينفر من الكلب ، ولم يطلبه الكلب ، فإذا خرجا عن حدود الحرم ، طلبه الكلب ، وذعر هو منه ، والطّائر يأنس بالناس في الحرم ، ولا يزال يطير حتى يقرب من البيت ، فإذا قرب منه عدل عنه ، ولم يطر فوقه إجلالا له ، فإذا لحقه وجع طرح نفسه على سقف البيت استشفاء به ، فهذه الأعاجيب في ذلك المكان ، وفي ذلك الشّهر قد دللن على أنّ الله تعالى يعلم ما في السّماوات وما في الأرض.
(ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩))
قوله تعالى : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) في هذه الآية تهديد شديد. وزعم مقاتل أنها نزلت والتي بعدها ، في أمر شريح بن ضبيعة وأصحابه ، وهم حجّاج اليمامة حين همّ المسلمون بالغارة عليهم ، وقد سبق ذكر ذلك في أوّل السورة. وهل هذه الآية محكمة ، أم لا؟ فيه قولان :
أحدهما : أنها محكمة ، وأنها تدلّ على أنّ الواجب على الرّسول التّبليغ ، وليس عليه الهدى. والثاني : أنها كانت قبل الأمر بالقتال ، ثم نسخت بآية السّيف.