ونقمت عليه أنقم ، والأوّل أجود. ومعنى «نقمت» : بالغت في كراهة الشّيء ، والمعنى : هل تكرهون منّا إلا إيماننا ، وفسقكم ، لأنّكم علمتم أنّنا على حقّ ، وأنكم فسقتم.
(قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠))
قوله تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) قال المفسّرون : سبب نزولها قول اليهود للمؤمنين : والله ما علمنا أهل دين أقلّ حظّا منكم في الدّنيا والآخرة ، ولا دينا شرّا من دينكم. وفي قوله تعالى : (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) قولان : أحدهما : بشرّ من المؤمنين ، قاله ابن عباس. والثاني : بشرّ ممّا نقمتم من إيماننا ، قاله الزجّاج. فأما «المثوبة» فهي الثّواب.
قال الزجّاج : وموضع «من» في قوله تعالى : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) إن شئت كان رفعا ، وإن شئت كان خفضا ، فمن خفض جعله بدلا من «شرّ» فيكون المعنى : أنبّئكم بمن لعنه الله؟ ومن رفع فبإضمار «هو» كأنّ قائلا قال : من ذلك؟ فقيل : هو من لعنة الله. قال أبو صالح عن ابن عباس : من لعنه الله بالجزية ، وغضب عليه بعبادة العجل ، فهم شرّ مثوبة عند الله.
وروي عن ابن عباس أنّ المسخين من أصحاب السّبت : مسخ شبابهم قردة ، ومشايخهم خنازير. وقال غيره : القردة : أصحاب السّبت ، والخنازير : كفّار مائدة عيسى. وكان ابن قتيبة يقول : أنا أظنّ أنّ هذه القردة والخنازير هي المسوخ بأعيانها توالدت. قال : واستدللت بقوله تعالى : (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) فدخول الألف واللام يدلّ على المعرفة ، وعلى أنّها القردة التي تعاين ، ولو كان أراد شيئا انقرض ومضى ، لقال : وجعل منهم قردة وخنازير ، إلا أن يصحّ حديث أمّ حبيبة في «المسوخ» فيكون كما قال عليهالسلام. قلت أنا :
(٤٤٦) وحديث أمّ حبيبة في «الصّحيح» انفرد بإخراجه مسلم ، وهو أنّ رجلا سأل النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فقال : يا رسول الله ، القردة والخنازير هي ممّا مسخ؟ فقال النبيّ عليهالسلام : «إن الله لم يمسخ قوما أو يهلك قوما ، فيجعل لهم نسلا ولا عاقبة ، وإنّ القردة والخنازير قد كانت قبل ذلك» وقد ذكرنا في سورة البقرة عن ابن عباس زيادة بيان ذلك ، فلا يلتفت إلى ظنّ ابن قتيبة.
قوله تعالى : (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) فيها عشرون قراءة. قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، ونافع ، والكسائيّ : «وعبد» بفتح العين والباء والدال ، ونصب تاء «الطّاغوت». وفيها وجهان : أحدهما : أنّ المعنى : وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطّاغوت. والثاني : أنّ المعنى : من لعنه الله وعبد الطّاغوت. وقرأ حمزة : «وعبد الطاغوت» بفتح العين والدال ، وضم الباء ، وخفض تاء الطاغوت. قال ثعلب : ليس لها وجه إلّا أن يجمع فعل على فعل. وقال الزجّاج : وجهها أنّ الاسم بني على «فعل» كما تقول : علم زيد ، ورجل حذر ، أي : مبالغ في الحذر. فالمعنى : جعل منهم خدمة
____________________________________
(٤٤٦) صحيح. أخرجه مسلم ٢٦٦٣ والحميدي ١٢٥ وأحمد ١ / ٣٩٥ ـ ٣٩٦ ـ ٣٩٧ ـ ٤٢٢ وأبو يعلى ٥٣١٣ من حديث ابن مسعود عن أم حبيبة.