والثاني : أنه كان باجتهاده ورأيه ، قاله الحسن وأبو العالية ، وعكرمة ، والرّبيع.
وقال قتادة : كان الناس يتوجّهون إلى أيّ جهة شاؤوا ، بقوله : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ). ثم أمرهم باستقبال بيت المقدس. وفي سبب اختياره بيت المقدس قولان : أحدهما : ليتألّف أهل الكتاب ، ذكره بعض المفسّرين. والثاني : لامتحان العرب بغير ما ألفوه ، قاله الزّجّاج.
(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣))
قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً). سبب نزولها : أنّ اليهود قالوا : قبلتنا قبلة الأنبياء ، ونحن عدل بين الناس ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل. والأمّة : الجماعة. والوسط : العدل ، قاله ابن عباس ، وأبو سعيد ، ومجاهد ، وقتادة ، وقال ابن قتيبة : الوسط : العدل الخيار ، ومنه قوله تعالى : (قالَ أَوْسَطُهُمْ) (١) ، أي : أعدلهم وخيرهم. قال الشّاعر :
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم |
|
إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم |
وأصل ذلك أنّ خير الأشياء أوساطها ، والغلوّ والتّقصير مذمومان. وذكر ابن جرير الطّبريّ أنه من التّوسّط في الفعل ، فإنّ المسلمين لم يقصّروا في دينهم كاليهود ، فإنهم قتلوا الأنبياء ، وبدّلوا كتاب الله ، ولم يغلوا كالنّصارى ، فإنهم زعموا أنّ عيسى ابن الله. وقال أبو سليمان الدّمشقيّ : في هذا الكلام محذوف ، ومعناه : جعلت قبلتكم وسطا بين القبلتين ، فإنّ اليهود يصلّون نحو المغرب ، والنّصارى نحو المشرق ، وأنتم بينهما.
قوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) فيه قولان : أحدهما : أنّ معناه : لتشهدوا للأنبياء على أممهم.
(٥٣) روى أبو سعيد الخدريّ عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «يجيء النبيّ يوم القيامة ومعه الرجل. ويجيء النبيّ ومعه الرّجلان ، ويجيء النبيّ ومعه أكثر من ذلك ، فيقال لهم : أبلّغكم هذا؟ فيقولون : لا ، فيقال للنبيّ : أبلّغتهم؟ فيقول : نعم ، فيقال : من يشهد لك؟ قال : محمّد وأمّته فيشهدون أنّ الرّسل قد بلّغوا فيقال : ما علمكم؟ فيقولون : أخبرنا نبيّنا أنّ الرّسل قد بلّغوا ، فصدّقناه ، فذلك قوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ)» ، وهذا مذهب عكرمة ، وقتادة. والثاني : أن معناه : لتكونوا شهداء لمحمّد صلىاللهعليهوسلم على الأمم : اليهود والنّصارى والمجوس ، قاله مجاهد.
____________________________________
(٥٣) صحيح. أخرجه البخاري ٣٣٣٩ و ٤٤٨٧ و ٧٣٤٩ والترمذي ٢٩٦١ وبإثر حديث ٢٩٦٥ والنسائي في «الكبرى» ١١٠٠٦ و ١١٠٠٧ وابن ماجة ٥٢٨٤ والطبري ٢١٦٥ و ٢١٦٦ وابن حبان ٧٢١٦ و ٦٤٧٧ وأحمد ٣ / ٩ و ٥٨ مختصرا ومطوّلا ، كلهم من حديث أبي سعيد الخدري. وصدره عند البخاري وغيره «يدعى نوح يوم القيامة فيقول : لبيك ...».
__________________
(١) القلم : ٢٨.