للعموم ، والجهة الأخرى أن لفظ هذه الآية ليس بلفظ عموم ، بل لفظ مشترك يقع كثيرا للخصوص ، كقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤] وليس حكام المؤمنين إذا حكموا بغير الحق في أمر بكفرة بوجه ، وكقول الشاعر [زهير بن أبي سلمى] : [الطويل]
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه |
|
يهدّم ومن لا يظلم النّاس يظلم |
وهذا إنما معناه الخصوص ، لأنه ليس كل من لا يظلم يظلم ، فهذه جهة أخرى تدل على أن العموم غير مترتب ، وما احتجوا به من قول زيد بن ثابت فليس كما ذكروه ، وإنما أراد زيد أن هذه الآية نزلت بعد سورة الفرقان ، ومراده باللينة قوله تعالى : (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) [الفرقان : ٦٨] ، وإن كان المهدوي قد حكى عنه أنه قال : أنزلت الآية (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) بعد قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء : ٤٨ ـ ١١٦] بأربعة أشهر فإذا دخله التخصيص ، فالوجه أن هذه الآية مخصوصة في الكافر يقتل المؤمن ، أما على ما روي أنها نزلت في شأن مقيس بن حبابة ، حين قتل أخاه هشام بن حبابة رجل من الأنصار ، فأخذ له رسول الله صلىاللهعليهوسلم الدية ، ثم بعثه مع رجل من فهر بعد ذلك في أمر ما ، فعدا عليه مقيس فقتله ورجع إلى مكة مرتدا ، وجعل ينشد : [الطويل]
قتلت به فهرا وحمّلت عقله |
|
سراة بني النّجّار أرباب فارع |
حللت به وتري وأدركت ثورتي |
|
وكنت إلى الأوثان أوّل راجع |
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا أؤمنه في حل ولا في حرم» ، وأمر بقتله يوم فتح مكة ، وهو متعلق بالكعبة ، وأما أن يكون على ما حكي عن ابن عباس أنه قال (مُتَعَمِّداً) معناه مستحلا لقتله. فهذا يؤول أيضا إلى الكفر ، وفي المؤمن الذي قد سبق في علم الله أنه يعذبه بمعصيته على ما قدمنا من تأويل ، فجزاؤه أن جازاه ، ويكون قوله (خالِداً) إذا كانت في المؤمن بمعنى باق مدة طويلة على نحو دعائهم للملوك بالتخليد ونحو ذلك ، ويدل على هذا سقوط قوله «أبدا» فإن التأبيد لا يقترن بالخلود إلا في ذكر الكفار.
واختلف العلماء في قبول توبة القاتل ، فجماعة على أن لا تقبل توبته ، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر ، وكان ابن عباس يقول : الشرك والقتل مبهمان ، من مات عليهما خلد ، وكان يقول : هذه الآية مدنية نسخت الآية التي في الفرقان ، إذ الفرقان مكية والجمهور على قبول توبته ، وروي عن بعض العلماء أنهم كانوا يقصدون الإغلاظ والتخويف أحيانا ، فيطلقون : لا تقبل توبة القاتل ، منهم ابن شهاب كان إذا سأله من يفهم منه أنه قد قتل قال له : توبتك مقبولة ، وإذا سأله من لم يفعل ، قال له : لا توبة للقاتل ، ومنهم ابن عباس وقع عنه في تفسير عبد بن حميد أن رجلا سأله أللقاتل توبة؟ فقال له : لا توبة للقاتل وجزاؤه جهنم ، فلما مضى السائل قال له أصحابه : ما هكذا كنا نعرفك تقول إلا أن للقاتل التوبة ، فقال لهم : إني رأيته مغضبا وأظنه يريد أن يقتل ، فقاموا فطلبوه وسألوا عنه ، فإذا هو كذلك. وذكر هبة الله في كتاب الناسخ والمنسوخ له : أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨ ـ ١١٦] وقال : هذا إجماع الناس إلا ابن عباس وابن عمر ، فإنهما قالا : هي محكمة.