ذلك مستثنى من قوله : (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) ، على سرد الكلام دون تقدير تقديم ، ثم اختلفت هذه الفرقة ، فقال الضحاك : إن الله هدى الكل منهم إلى الإيمان ، فكان منهم من تمكن فيه حتى لم يخطر له قط خاطر شك ، ولا عنت له شبهة ارتياب ، فذلك هو القليل ، وسائر من أسلم من العرب لم يخل من الخواطر ، فلو لا فضل الله بتجديد الهداية لهم لضلوا واتبعوا الشيطان إلا قبضة من شعير وقبضة من قرظ ، وإذا أفيقان معلقان ، فبكيت ، فقال رسول الله عليهالسلام : ما يبكيك يا بن الخطاب؟ فقلت يا رسول الله : أنت صفوة الله من خلقه ورسوله ، وليس لك من الدنيا إلا هذا ، وكسرى وقيصر في الأشجار والأنهار ، فقال أهاهنا أنت يا عمر؟ أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ فقلت : بلى ، ثم جعلت أحدثه حتى تهلل وابتسم ، فقلت يا رسول الله : إنهم ادعوا أنك طلقت نساءك ، فقال : لا ، فقلت أتأذن لي أن أعرف الناس؟ قال : افعل إن شئت ، قال : فقمت على باب المسجد ، فقلت : ألا إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يطلق نساءه ، فأنزل الله في هذه القصة (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) الآية وأنا الذي استنبطته.
وقوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ) الآية ، المعنى : لو أمسكوا عن الخوض واستقصوا الأمور من قبل الرسول. أو (أُولِي الْأَمْرِ) وهم الأمراء ، قاله السدي وابن زيد ، وقيل : أهل العلم ، قاله الحسن وقتادة وغيرهما ، والمعنى يقتضيهما معا (لَعَلِمَهُ) طلابه من (أُولِي الْأَمْرِ) والبحثة عنه وهم مستنبطوه ، كما يستنبط الماء وهو النبط أي الماء المستخرج من الأرض. ومنه قول الشاعر :
قريب ثراه ما ينال عدوّه |
|
له نبطا آبي الهوان قطوب |
يعني بالنبط الماء المستنبط.
وقوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً). هذا خطاب للمؤمنين باتفاق من المتأولين. والمعنى : لو لا هداية الله لكم وإرشاده لبقيتم على كفركم ، وهو اتباع الشيطان. وقال الضحاك : هدى الكل منهم للإيمان فمنهم من تمكن فيه حتى لم يخطر له قط خاطر شك ولا عنت له شبهة ارتياب ، وذلك هو القليل ؛ وسائر من أسلم من العرب لم يخل من الخواطر ، فلو لا فضل الله بتجريد الهداية لهم لضلّوا واتبعوا الشيطان.
قال القاضي أبو محمد : هذا معنى قول الضحاك ، ويجيء الفضل معينا ، أي رسالة محمد والقرآن ، لأن الكل إنما هدي بفضل الله على الإطلاق ، وقال قوم : المخاطب بقوله (لَاتَّبَعْتُمُ) جميع المؤمنين ، وقوله : (إِلَّا قَلِيلاً) إشارة إلى من كان قبل الإسلام غير متبع للشيطان على ملة إبراهيم ، كورقة بن نوفل ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وغيرهما ، وقال قوم : الاستثناء إنما هو من الاتباع ، أي (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ) كلكم (إِلَّا قَلِيلاً) من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها ، وقال قوم : قوله : (إِلَّا قَلِيلاً) عبارة عن العدم ، يريدون لاتبعتم الشيطان كلكم ، وهذا الأخير قول قلق ، وليس يشبه ما حكى سيبويه من قولهم : أرض قل ما تنبت كذا ، بمعنى لا تنبته لأن اقتران القلة بالاستثناء يقتضي حصولها ، ولكن قد ذكره الطبري.
قوله تعالى :
(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا