الآية بالتي قبلها هو أن قيل لهم ليس الحق في نفسه على ما تزعمون من أنكم أبناء الله وأحباؤه ، بل لستم على شيء مستقيم حتى تؤمنوا وتقيموا الكتب المنزلة ، ثم استأنف الإخبار عن الحق في نفسه بأنه من آمن في كل العالم فهو الفائز الذي لا خوف عليه.
قوله عزوجل : (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) الآية ، استئناف خبر بفعل أوائلهم وما نقضوا من العهود واجترحوا من الجرائم ، أي إن العصا من العصية ، وهؤلاء يا محمد من أولئك فليس قبيح فعلهم ببدع ، و (كُلَّما) ظرف والعالم فيه كذبوا ويقتلون .. وقوله تعالى : (بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) يقتضي أن هواهم كان غير الحق وهو ظاهر هوى النفس متى أطلق ، فمتى قيد بالخير ساغ ذلك ، ومنه قول عمر رضي الله عنه في قصة أسارى بدر : فهوى رسول الله ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت أنا ، وقوله تعالى :
(فَرِيقاً كَذَّبُوا) معناه كذبوه فقط ، يريد الفريق من الرسل ولم يقتلوه ، وفريقا من الرسل كذبوه وقتلوه ، فاكتفى بذكر القتل إذ هو يستغرق التكذيب.
قوله عزوجل :
(وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (٧٢)
المعنى في هذه الآية وظن هؤلاء الكفرة والعصاة من بني إسرائيل أن لا يكون من الله ابتلاء لهم وأخذ في الدنيا وتمحيص فلجوا في شهواتهم وعموا فيها إذ لم يبصروا الحق شبهوا بالصم ، ونحو هذا قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «حبك الشيء يعمي ويصم» وقوله تعالى : (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) قالت جماعة من المفسرين : هذه التوبة هي ردهم إلى بيت المقدس بعد الإخراج الأول ورد ملكهم وحالهم ، ثم عموا وصموا بعد ذلك حتى أخرجوا الخرجة الثانية ولم ينجبروا أبدا وقالت جماعة ثم تاب الله عليهم ببعث عيسى عليهالسلام إليهم ، وقالت جماعة : توبته تعالى عليهم بعث محمد عليهالسلام وخص بهذا المعنى كثيرا منهم لأن منهم قليلا آمن ، ثم توعدهم بقوله تعالى : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «ألا تكون» بنصب النون ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «أن لا تكون» برفع النون ، ولم يختلفوا في رفع (فِتْنَةٌ) لأن «كان» هنا هي التامة ، فوجه قراءة النصب أن تكون «أن» هي الخفيفة الناصبة ، ووجه قراءة الرفع أن تكون المخففة من الثقيلة ، وحسن دخولها لأن «لا» قد وطأت أن يليها الفعل وقامت مقام الضمير المحذوف عوضا منه ، ولا بد في مثل هذا من عوض ، مثل قولك علمت أن قد يقوم زيد ، وقوله عزوجل (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) [المزمل : ٢٠] وقولك علمت أن سوف يقوم زيد وأن لا تكون فتنة ، وقوله تعالى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] حسن فيه أن لا يكون عوض لأن ليس بفعل حقيقي والأفعال ثلاثة ضروب ضرب يجري مجرى تيقنت نحو علمت ودريت فهذا الضرب تليه «أن» الثقيلة