وأما المعنى الثاني فعلى أن يكون (التَّعَفُّفِ) داخلا في المحسبة أي إنهم لا يظهر لهم سؤالا ، بل هو قليل.
وبإجمال فالجاهل به مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عفة ، ف (مِنَ) لبيان الجنس على هذا التأويل ، ثم نفى عنهم سؤال الإلحاف وبقي غير الإلحاف مقررا لهم حسبما يقتضيه دليل الخطاب ، وهذا المعنى في نفي الإلحاف فقط هو الذي تقتضيه ألفاظ السدي ، وقال الزجّاج رحمهالله : المعنى لا يكون منهم سؤال فلا يكون إلحاف. وهذا كما قال امرؤ القيس : [الطويل]
على لاحب لا يهتدى بمناره.
أي ليس ثم منار فلا يكون اهتداء.
قال القاضي أبو محمد رحمهالله : إن كان الزجاج أراد لا يكون منهم سؤال البتة فذلك لا تعطيه الألفاظ التي بعد لا ، وإنما ينتفي السؤال إذا ضبط المعنى من أول الآية على ما قدمناه ، وإن كان أراد لا يكون منهم سؤال إلحاف فذلك نص الآية ، وأما تشبيهه الآية ببيت امرئ القيس فغير صحيح ، وذلك أن قوله : على لاحب لا يهتدى بمناره وقوله الآخر : [البسيط].
قف بالطّلول التي لم يعفها القدم
وقول الشاعر : [المتقارب]
ومن خفت من جوره في القضا |
|
ء فما خفت جورك يا عافيه |
وما جرى مجراه ترتيب يسبق منه أنه لا يهتدى بالمنار ، وإن كان المنار موجودا ، فلا ينتفي إلا المعنى الذي دخل عليه حرف النفي فقط ، وكذلك ينتفي العفا وإن وجد القدم ، وكذلك ينتفي الخوف وإن وجد الجور ، وهذا لا يترتب في الآية ، ويجوز أن يريد الشعراء أن الثاني معدوم فلذلك أدخلوا على الأول حرف النفي إذ لا يصح الأول إلا بوجود الثاني ، أي ليس ثم منار ، فإذا لا يكون اهتداء بمنار ، وليس ثم قدم فإذا لا يكون عفا ، وليس ثم جور فإذا لا يكون خوف ، وقوله تعالى : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) ، لا يترتب فيه شيء من هذا ، لأن حرف النفي دخل على أمر عام للإلحاف وغيره ، ثم خصص بقوله : (إِلْحافاً) جزءا من ذلك العام فليس بعدم الإلحاف ينتفي السؤال ، وبيت الشعر ينتفي فيه الأول بعدم الثاني إذ دخل حرف النفي فيه على شيء متعلق وجوده بوجود الذي يراد أنه معدوم ، والسؤال ليس هكذا مع الإلحاف ، بل الأمر بالعكس إذ قد يعدم الإلحاف منهم ويبقى لهم سؤال لا إلحاف فيه ، ولو كان الكلام لا يلحفون الناس سؤالا لقرب الشبه بالأبيات المتقدمة ، وكذلك لو كان بعد لا يسألون شيء إذا عدم السؤال ، كأنك قلت تكسبا أو نحوه لصح الشبه ، والله المستعان وقوله تعالى : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) وعد محض أي يعلمه ويحصيه ليجازي عليه ويثيب.
قوله تعالى :
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما