يمنع من التصرف في التجارة. فبقوا فقراء إلا أنهم من الانقباض وترك المسألة والتوكل على الله بحيث (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ) بباطن أحوالهم (أَغْنِياءَ) و (التَّعَفُّفِ) تفعل ، وهو بناء مبالغة من عفّ عن الشيء إذا أمسك عنه وتنزه عن طلبه. وبهذا المعنى فسر قتادة وغيره ، وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي «يحسبهم» بكسر السين. وكذلك هذا الفعل في كل القرآن ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة «يحسبهم» بفتح السين في كل القرآن ، وهما لغتان في «يحسب» كعهد ويعهد بفتح الهاء وكسرها في حروف كثيرة أتت كذلك ، قال أبو علي فتح السين في يحسب أقيس لأن العين من الماضي مكسورة فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة ، والقراءة بالكسر حسنة بمجيء السمع به ، وإن كان شاذا عن القياس ، و (مِنَ) في قوله : (مِنَ التَّعَفُّفِ) لابتداء الغاية أي من تعففهم ابتدأت محسبته ، وليست لبيان الجنس لأن الجاهل بهم لا يحسبهم أغنياء غناء تعفف ، وانما يحسبهم أغنياء غناء مال ، ومحسبته من التعفف ناشئة ، وهذا على أنهم متعففون عفة تامة عن المسألة ، وهو الذي عليه جمهور المفسرين ، لأنهم قالوا في تفسير قوله تعالى (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) : المعنى لا يسألون البتة. وتحتمل الآية معنى آخر من فيه لبيان الجنس ، سنذكره بعد والسيما مقصورة العلامة. وبعض العرب يقول : السيمياء بزيادة ياء وبالمد ، ومنه قول الشاعر : [الطويل].
له سيمياء لا تشقّ على البصر
واختلف المفسرون في تعيين هذه «السيما» التي يعرف بها هؤلاء المتعففون ، فقال مجاهد : هي التخشع والتواضع ، وقال السدي والربيع : هي جهد الحاجة وقصف الفقر في وجوههم وقلة النعمة ، وقال ابن زيد : هي رثة الثياب ، وقال قوم ، وحكاه مكي : هي أثر السجود.
قال القاضي أبو محمد رحمهالله : وهذا حسن لأنهم كانوا متفرغين متوكلين لا شغل لهم في الأغلب إلا الصلاة ، فكان أثر السجود عليهم أبدا ، و «الإلحاف» والإلحاح بمعنى واحد ، وقال قوم : هو مأخوذ من ألحف الشيء إذا غطاه وغمه بالتغطية ، ومنه اللحاف ، ومنه قول ابن الأحمر : [الوافر]
يظلّ يحفّهنّ بقفقفيه |
|
ويلحفهنّ هفهافا ثخينا |
يصف ذكر نعام يحضن بيضا ، فكأن هذا السائل الملح يعم الناس بسؤاله فيلحفهم ذلك ، وذهب الطبري والزجاج وغيرهما إلى أن المعنى لا يسألون البتة.
قال القاضي أبو محمد رحمهالله : والآية تحتمل المعنيين نفي السؤال جملة ونفي الإلحاف فقط ، أما الأولى فعلى أن يكون (التَّعَفُّفِ) صفة ثابتة لهم ، ويحسبهم الجاهل بفقرهم لسبب تعففهم أغنياء من المال ، وتكون (مِنَ) لابتداء الغاية ويكون قوله : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) لم يرد به أنهم يسألون غير إلحاف بل المراد به التنبيه على سوء حالة من يسأل إلحافا من الناس ، كما تقول : هذا رجل خير لا يقتل المسلمين. فقولك : «خير» قد تضمن أنه لا يقتل ولا يعصي بأقل من ذلك ، ثم نبهت بقولك لا يقتل المسلمين على قبح فعل غيره ممن يقتل ، وكثيرا ما يقال مثل هذا إذا كان المنبه عليه موجودا في القضية مشارا إليه في نفس المتكلم والسامع. وسؤال الإلحاف لم تخل منه مدة ، وهو مما يكره ، فلذلك نبه عليه.