بعض من ذكر : القبلة بيت المقدس ، والمعنى : وما جعلنا صرف القبلة التي كنت عليها وتحويلها ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقال ابن عباس : القبلة في الآية الكعبة ، وكنت بمعنى أنت كقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١١٠] بمعنى أنتم ، أي وما جعلناها وصرفناك إليها إلا فتنة ، وروي في ذلك أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما حول إلى الكعبة أكثر في ذلك اليهود والمنافقون وارتاب بعض المؤمنين حتى نزلت الآية ، وقال ابن جريج : بلغني أن ناسا ممن كان أسلم رجعوا عن الإسلام ، ومعنى قوله تعالى : (لِنَعْلَمَ) أي ليعلم رسولي والمؤمنون به ، وجاء الإسناد بنون العظمة إذ هم حزبه وخالصته ، وهذا شائع في كلام العرب كما تقول : فتح عمر العراق وجبى خراجها ، وإنما فعل ذلك جنده وأتباعه ، فهذا وجه التجوز إذا ورد علم الله تعالى بلفظ استقبال لأنه قديم لم يزل ، ووجه آخر : وهو أن الله تعالى قد علم في الأزل من يتبع الرسول واستمر العلم حتى وقع حدوثهم واستمر في حين الاتباع والانقلاب ويستمر بعد ذلك ، والله تعالى متصف في كل ذلك بأنه يعلم ، فأراد بقوله (لِنَعْلَمَ) ذكر علمه وقت مواقعتهم الطاعة والمعصية ، إذ بذلك الوقت يتعلق الثواب والعقاب ، فليس معنى (لِنَعْلَمَ) لنبتدىء العلم وإنما المعنى لنعلم ذلك موجودا ، وحكى ابن فورك أن معنى (لِنَعْلَمَ) لنثيب ، فالمعنى لنعلمهم في حال استحقوا فيها الثواب ، وعلق العلم بأفعالهم لتقوى الحجة ويقع التثبت فيما علمه لا مدافعة لهم فيه ، وحكى ابن فورك أيضا أن معنى (لِنَعْلَمَ) لنميز ، وذكره الطبري عن ابن عباس ، وحكى الطبري أيضا أن معنى (لِنَعْلَمَ) لنرى.
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله متقارب ، والقاعدة نفي استقبال العلم بعد أن لم يكن ، وقرأ الزهري ليعلم على ما لم يسم فاعله.
و (يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) عبارة عن المرتد الراجع عما كان فيه من إيمان أو شغل أو غير ذلك ، والرجوع على العقب أسوأ حالات الراجع في مشيه عن وجهته ، فلذلك شبه المرتد في الدين به ، وظاهر التشبيه أنه بالمتقهقر ، وهي مشية الحيوان الفازع من شيء قد قرب منه ، ويحتمل أن يكون هذا التشبيه بالذي رد ظهره ومشى أدراجه فإنه عند انقلابه إنما ينقلب على عقبيه.
وقوله تعالى : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) الآية ، الضمير في (كانَتْ) راجع إلى القبلة إلى بيت المقدس ، أو إلى التحويلة إلى الكعبة حسب ما ذكرناه من الاختلاف في القبلة ، وقال ابن زيد : «هو راجع إلى الصلاة التي صليت إلى بيت المقدس» ، وشهد الله تعالى في هذه الآية للمتبعين بالهداية ، و «كبيرة» هنا معناه شاقة صعبة تكبر في الصدور ، و (إِنْ) هي المخففة من الثقيلة ، ولذلك لزمتها اللام لتزيل اللبس الذي بينها وبين النافية ، وإذا ظهر التثقيل في (إِنْ) فلربما لزمت اللام وربما لم تلزم ، وقال الفراء : (إِنْ) بمعنى ما واللام بمنزلة إلا.
ولما حولت القبلة كان من قول اليهود : يا محمد إن كانت الأولى حقا فأنت الآن على باطل ، وإن كانت هذه حقا فكنت في الأولى على ضلال. فوجست نفوس بعض المؤمنين وأشفقوا على من مات قبل التحويل على صلاتهم السالفة ، فنزلت (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) ، وخاطب الحاضرين والمراد من