هذا أن الممسوخ ينسل ، فإن كان أراد هذا فهو ظن منه عليهالسلام في أمر لا مدخل له في التبليغ ، ثم أوحي إليه بعد ذلك أن الممسوخ لا ينسل ، ونظير ما قلناه نزوله عليهالسلام على مياه بدر ، وأمره باطراح تذكير النخل ، وقد قال صلىاللهعليهوسلم : «إذا أخبرتكم برأي في أمور الدنيا فإنما أنا بشر».
وروي عن مجاهد في تفسير هذه الآية أنه إنما مسخت قلوبهم فقط وردّت أفهامهم كأفهام القردة ، والأول أقوى ، والضمير في «جعلناها» : يحتمل العود على المسخة والعقوبة ، ويحتمل على الأمة التي مسخت ، ويحتمل على القردة ، ويحتمل على القرية إذ معنى الكلام يقتضيها ، وقيل يعود على الحيتان ، وفي هذا القول بعد.
والنكال : الزجر بالعقاب ، والنكل والأنكال : قيود الحديد ، فالنكال عقاب ينكل بسببه غير المعاقب عن أن يفعل مثل ذلك الفعل ، قال السدي : ما بين يدي المسخة : ما قبلها من ذنوب القوم ، (وَما خَلْفَها) : لمن يذنب بعدها مثل تلك الذنوب ، وهذا قول جيد ، وقال غيره : «ما بين يديها» أي من حضرها من الناجين ، (وَما خَلْفَها) أي لمن يجيء بعدها ، وقال ابن عباس : (لِما بَيْنَ يَدَيْها) : أي من بعدهم من الناس ليحذر ويتقي ، (وَما خَلْفَها) : لمن بقي منهم عبرة.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وما أراه يصح عن ابن عباس رضي الله عنه ، لأن دلالة ما بين اليد ليست كما في القول ، وقال ابن عباس أيضا : (لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) ، أي من القرى ، فهذا ترتيب أجرام لا ترتيب في الزمان.
(وَمَوْعِظَةً) مفعلة من الاتعاظ والازدجار ، و (لِلْمُتَّقِينَ) معناه للذين نهوا ونجوا ، وقالت فرقة : معناه لأمة محمد صلىاللهعليهوسلم ، واللفظ يعم كل متق من كل أمة.
وقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) الآية : (إِذْ) عطف على ما تقدم ، والمراد تذكيرهم بنقض سلفهم للميثاق ، وقرأ أبو عمرو «يأمركم» بإسكان الراء ، وروي عنه اختلاس الحركة ، وقد تقدم القول في مثله في «بارئكم».
وسبب هذه الآية على ما روي ، أن رجلا من بني إسرائيل أسنّ وكان له مال ، فاستبطأ ابن أخيه موته ، وقيل أخوه ، وقيل ابنا عمه ، وقيل ورثة كثير غير معينين ، فقتله ليرثه وألقاه في سبط آخر غير سبطه ، ليأخذ ديته ويلطخهم بدمه ، وقيل : كانت بنو إسرائيل في قريتين متجاورتين ، فألقاه إلى باب إحدى المدينتين ، وهي التي لم يقتل فيها ، ثم جعل يطلبه هو وسبطه حتى وجده قتيلا ، فتعلق بالسبط أو بسكان المدينة التي وجد القتيل عندها ، فأنكروا قتله ، فوقع بين بني إسرائيل في ذلك لحاء حتى دخلوا في السلاح ، فقال أهل النهي منهم : أنقتل ورسول الله معنا؟ فذهبوا إلى موسى عليهالسلام فقصوا عليه القصة ، وسألوه البيان ، فأوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة فيضرب القتيل ببعضها ، فيحيى ويخبر بقاتله فقال لهم : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) ، فكان جوابهم أن قالوا : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) قرأ الجحدري «أيتخذنا» بالياء ، على معنى أيتخذنا الله ، وقرأ حمزة : «هزؤا» بإسكان الزاي والهمز ، وهي لغة ، وقرأ عاصم بضم الزاي والهاء والهمز ، وقرأ أيضا : دون همز «هزوا» ، حكاه أبو علي ، وقرأت طائفة من القراء بضم الهاء والزاي والهمزة