ليعرف موقع جمل الكلام إذا تألفت ، فيفصل ما بين ما تألف من كلمات مخصوصة وبين ما يأتلف من غيرها ، ويعرف الطرائق فى هذا الباب ، ولا بدّ مع ذلك من محاضرة ما يعلمه ، لأنه قد يجوز أن يتساوى الرجلان فى المعرفة وأحدهما أقوى محاضرة من الآخر ، وأن كان الذى يقصر عنه ، مثله فى العلم ، أو أزيد ، لكنه يحتاج فيما نعلم ، إلى تثبيت وفكرة ، فلا بد مع الوجه الذى ذكرناه ، من قوة المحاضرة ، ولهذا الوجه يتفاضل العلماء بذلك ، فيصح من بعضهم ، من الخطب والشعر ما لا يصح من غيره ، وإن كان فى العلم ربما ماثل أو زاد ، ولا بدّ مع كل ما ذكرناه ، من تأييد وإلطاف يرد من قبل الله تعالى ، ولذلك نجد المتكلم يروم طريقة فى الفصاحة ، فتقرب عليه مرة ، وتبعد أخرى ، وحاله مع العلم لا يكاد يختلف ، وإنما كان كذلك لأن لطائف هذه الأمور تحصل بغالب الظن ، وإن كان ظاهرها يحصل بالعلم (١).
ويقصد بذلك أن من يعلم أفراد الكلمات وكيفية ضمها ، وتركيبها ، ومواقعها ، فبحسب هذه العلوم والتفاضل فيها ، يتفاضل ما يصح منهم من رتب الكلام الفصيح ، وتحتاج بجانبها إلى قدر من الفطنة والذكاء والتذوق والتفريق الدقيق بين دواعى التأثير قوة وضعفا ، وهذه فطرية ، تحصل من الله تعالى كالقدرة ، وكما يصح التفاضل فى تلك العلوم يصح أيضا التفاضل فى هذه الألطاف. فلا يمتنع أن يجرى الله تعالى العادة بقدر منها لا يمكن أن يفعل لأجله إلا ما يبلغ رتبة معلومة فى الفصاحة ، فيصير الزائد على تلك الرتبة متعذرا بالعادة ، ويصير معجزا (٢).
وهذا القدر ضرورى ، لأنه تتفاوت أحوال العلماء فيه ، كما تتفاوت فى العلوم المكتسبة ، وأنت تجد المتساويين فى الاجتهاد فى النظر يتقدم أحدهما الآخر بالأمر العظيم فى باب الاكتساب ، ولا يجوز مثله فى باب الضروريات الا بالقدر المعتاد ، إلا إذا كان أحدهما ناقص الآلة ، وأما إذا كانت الآلة متساوية والممارسة كمثل ،
__________________
(١) القاضى عبد الجبار ـ إعجاز القرآن ـ ٢٠٣.
(٢) نفس المصدر ـ ٢٠٨ و ٢٠٩.