المعرفة ولذلك قال بعده (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) وبيّن تعالى عظم شأن القرآن بقوله من بعده «ولو أن قرآنا سيّرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلّم به الموتى» وجواب ذلك محذوف ، والمراد لكان هذا القرآن وذلك يدل على أنه فى الفصاحة قد بلغ نهاية الرتبة وأنه صار معجزا لذلك» (١).
وقد عدد فى مواضع من كتابه هذا ، كيف أن القرآن يعد فى كمال الفصاحة (٢) وفى «شرح الأصول» يقول : فإن قيل ما وجه الإعجاز فى القرآن؟ قلنا : هو أنه تحدى بمعارضة العرب مع أنهم كانوا هم الغاية فى الفصاحة ، والمشار إليهم فى الطلاقة والذلاقة وقرّعهم بالعجز عن الإتيان بمثله ، فلم يعارضوه وعدلوا عنه (٣).
ثم نرى القاضى يعرض لقضية الفصاحة من جانبها الجدلى ، قبل أن يوضح نظرته فى الفصاحة نفسها ، فالعرب لم يعارضوا القرآن ، ولم يأتوا بمثله لتعذر ذلك عليهم ، وإنما تعذر لما يختص به القرآن من المزية فى الفصاحة ، وهذه المزية يصح التحدى بها ، فللكلام الفصيح مرتب ونهايات وأن جملة الكلمات وإن كانت محصورة فتأليفها يقع على طرائق مختلفة الوجوه ، فتختلف لذلك مراتبه من بعض ، ويزيد عليه قدرا يسيرا أو كبيرا ، وما هذا حاله فالتحدى صحيح فيه ، لأن فيه مقادير معتادة تصح فيها زيادات فى المراتب غير معتادة (٤).
أى أن الإنسان ـ ذلك القادر على أفعاله عند المعتزلة ـ وقدرته على الكلام إحدى جوانب هذه القدرة ـ هذا الإنسان لا يحتاج لكى يعارض القرآن إلى توافر القدرة عنده ، بل يحتاج إلى أن يجمع للقدرة العلم بكيفية الفصاحة ومراتبها ، لأن الكلام منه الفصيح ومنه الركيك ، ومنه ما يصعد من الأكثر فصاحة إلى الأفصح وإلى المتناهى فى الفصاحة ، وكذا منه ما يهبط نفس الدرجات.
__________________
(١) القاضى عبد الجبار ـ تنزيه القرآن عن المطاعن ـ ٢٠٣.
(٢) انظر المصدر السابق ١٥٨ و ٢٢١ و ٢٧١ و ٤٧٦.
(٣) القاضى عبد الجبار ـ شرح الأصول الخمسة ـ ٥٨٦.
(٤) القاضى عبد الجبار ـ اعجاز القرآن ـ ٢١٤.