العربية وبألفاظها التى هى ظروف المعانى والحوامل ، ولا تدرك أفهامهم جميع معانى الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ. ولا تكمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظوم التى بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض ، فيتوصلوا باختيار الأفضل عن الأحسن من وجوهها ، إلى أن يأتوا بكلام مثله. وانما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة : لفظ حامل ، ومعنى به قائم ، ورباط لهما ناظم ، وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه فى غاية الشرف والفضيلة ، حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أوضح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه ولا ترى نظما أحسن تأليفا وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه ، وأما المعانى فلا خفاء على ذى عقل أنها هى التى تشهد لها العقول بالتقدم فى أبوابها والترقى إلى أعلى درجات الفضل من نعوتها وصفاتها (١).
ويقول فى موضع آخر من رسالته هذه «فأما المعانى التى تحملها الألفاظ ، فالأمر فى معاناتها أشد لأنها نتائج العقول ، وولائد الأفهام وبنات الأفكار ، وأما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر لأنها لجام الألفاظ وزمام المعانى ، وبه تنظيم أجزاء الكلام ، ويلتئم بعضه ببعض فتقوم له صورة فى النفس يتشكل بها البيان (٢).
وإذا تركنا الخطابى نجد قدامة بن جعفر ، يشير إلى صلة النظم بالنحو ، إذ ينبغى أن يتقصّى النظم خطا النحو الطبيعية (٣) وأبو هلال العسكرى يشير أيضا إلى وضع الألفاظ فى مواضعها (٤) ويلتفت إلى مبادئ الكلام ومقاطعه وحسن الخروج ، والفصل والوصول وما يجرى مجرى ذلك (٥) وابن رشيق القيروانى يتكلم عن الأسلوب الذى أفرغ إفراغا ، وذلك فى باب النظم من كتابه (٦).
__________________
(١) الخطابى ـ بيان اعجاز القرآن ـ ٢٤.
(٢) الخطابى ـ بيان اعجاز القرآن ـ ٣٣.
(٣) قدامة بن جعفر ـ نقد الشعر ـ ١٨٩.
(٤) أبو هلال العسكرى ـ الصناعتين ـ ١٣٥. وقد رجع الجرجانى إلى العسكريين وهما أبو أحمد وابن أخته أبو هلال ، ورد ذكر أبى أحمد فى الأسرار ص ٨٢ ، وورد ذكر أبى هلال فى الدلائل ص ٣٠٥. وفيها ذكر اسم كتابه «صنعة الشعر».
(٥) نفس المصدر ـ ٤٢٣.
(٦) ابن رشيق ـ العمدة ـ ١ / ١٧١. وقد رجع الجرجانى لابن رشيق فى الأسرار ص ٢٠٣ ، ٣٢٢.