ولا نستطيع أن ندفع قول الباقلانى بهذين النصين ، فقد يكونان من باب المبالغة فى التكريم ، ولو كان كتاب الجاحظ بين أيدينا لاستطعنا أن نعقد مقارنة بين ما ورد فى الكتابين.
ولنقرأ الآن وجهة الباقلانى فى نقده للجاحظ. يقول «وليس لقائل أن يقول. قد يسلم بعض الكلام من العوارض والعيوب ، ويبلغ أمره فى الفصاحة والنظم العجيب. ولا يبلغ عندكم حد المعجز ، فلم قضيتم به فى القرآن دون غيره من الكلام؟ ثم يأخذ الباقلانى فى الرد بأن كل الأعمال المشهورة للأدباء المعروفين ، إذا تأملناها سنجد أنها تحتوى على ضعف وخلل غير موجودين فى القرآن ، وهذا الجاحظ ، قد يزعم الزاعمون أن كلام الجاحظ من السّمت الذى لا يؤخذ فيه ، والباب الذى لا يذهب عنه ، وأنت تجد قوما يرون كلامه قريبا ، ومنهاجه معيبا ، ونطاق قوله ضيقا ، حتى يستعين بكلام غيره ، ويفزع إلى ما يوشح به كلامه : من بيت سائر ومثل نادر وكلمة ممهدة منقولة ، وقصة عجيبة مأثورة ، وأما كلامه فى أثناء ذلك فسطور قليلة وألفاظ يسيرة ، فإذا أحوج إلى تطويل الكلام خاليا عن شىء يستعين به ـ فيخلط بقوله من قول غيره ـ كان كلاما ككلام غيره. فان أردت أن تحقق هذا فانظر فى كتبه ، فى «نظم القرآن» وفى «الرد على النصارى» وفى «خبر الواحد» وغير ذلك مما يجرى هذا المجرى ، هل تجد فى ذلك كله ورقة واحدة تشتمل على نظم بديع أو كلام مليح؟ على أن متأخرى الكتاب قد نازعوه فى طريقته ، وجاذبوه على منهجه ، فمنهم من ساواه حين ساماه ، ومنهم من أبر عليه إذ باراه ، هذا «أبو الفضل ابن العميد» ، قد سلك مسلكه وأخذ طريقه ، فلم يقصّر عنه ، ولعله قد بان تقدمه عليه ، لأنه يأخذ فى الرسالة الطويلة فيستوفيها على حدود مذهبه ، ويكملها على شروط صنعته ولا يقتصر على أن يأتى بالأسطر من نحو كلامه ، كما ترى الجاحظ يفعله فى كتبه ، متى ذكر من كلامه سطرا ، أتبعه من كلام الناس أوراقا ، وإذا ذكر صفحة ، بنى عليه من قول غيره كتابا (١).
__________________
(١) الباقلانى ـ إعجاز القرآن ـ ٢٤٧ و ٢٤٨.