إن المسألة ـ بكل بساطة ـ هي أن يواجه الرسول الموقف بعقليّة واقعيّة ، وذهنيّة عمليّة مرنة ، بعيدا عن كل الحالات الشعورية الذاتية. وبذلك تستمر القافلة الرسالية في سيرها الطبيعيّ ، لتصل إلى أهدافها الكبيرة في نهاية المطاف.
وفي ضوء ذلك ، تتحوّل هذه الآيات إلى خطة تربويّة للعمل الرسالي ، يواصل من خلالها ذاك العمل طريقه بكل موضوعيّة وهدوء ، تماما كأيّ عمل يرتبط بمسؤوليته ولا يرتبط بذاته ، حيث يتحرك الداعية على أساس المعطيات الواقعية ، ومدى انسجامها مع خط المسؤولية في عمله .. فيعيش التجرد من كل ما لا يرتبط بالعمل ، مما يجعل للحركة فاعليّة قويّة ، ويقود الموقف إلى خطوات الواقع.
وهكذا تخرج القضية من النطاق الذاتي الشخصي ، لتتّصل بالنطاق العام للرسالة وللرسول فلا تعود شيئا شخصيا للنبيّ ، بل تتحوّل إلى قاعدة عامّة لكل الرسل والرسالات ؛ ومن هنا ، تتساقط كل علامات الاستفهام أمام شموليَّة القاعدة وثباتها.
إن القرآن يريد أن يؤكد الفكرة ـ الخط ، في ضمير النبي ـ الداعية ، ليفرّغ ذاته من الانفعال ، فهناك حالة بشرية تحبّ التمرّد والمواجهة والهروب من المسؤوليّة ، فلا بد من مواجهتها من منطق الواقع الذي يبحث في الأرض عن الإمكانيات الحاضرة والمستقبلة لانتصار الدعوة في حركتها الفاعلة ، مما يفرض المزيد من الهدوء النفسي والاتّزان العاطفي والثبات العقلي ، فالدعوة تمثل رسالة الله ، والتكذيب يواجه هذه الرسالة .. فهو يواجه الله في النهاية ، وليس هذا الأمر بدعا في التجربة الجديدة للرسول ـ الداعية ، فهي حلقة من حلقات السلسلة التاريخيّة لمسيرة النبوّات في التاريخ ، فقد كان هناك في المدى البعيد في الزمن الغابر أكثر من نبيّ جاء بالرسالة ، فواجهه الآخرون بالتكذيب ، فقد كان من سنّة الله أن ينطلق الرسل ضد التيار السائد فكريّا