(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (٧٧)
____________________________________
والبادية التى لا يعزب عن علمنا شىء منها وفيه فضل تسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وتقديم السر على العلن إما للمبالغة فى بيان شمول علمه تعالى لجميع المعلومات كأن علمه تعالى بما يسرونه أقدم منه بما يعلنونه مع استوائهما فى الحقيقة فإن علمه تعالى بمعلوماته ليس بطريق حصول صورها بل وجود كل شىء فى نفسه علم بالنسبة إليه تعالى وفى هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة والكامنة وإما لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شىء يعلن إلا وهو أو مباديه مضمر فى القلب قبل ذلك فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية حقيقة (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان إنكارهم البعث بعد ما شاهدوا فى أنفسهم أوضح دلائله وأعدل شواهده كما أن ما سبق مسوق لبيان بطلان إشراكهم بالله تعالى بعد ما عاينوا فيما بأيديهم ما يوجب التوحيد والإسلام وأما ما قيل من أنه تسلية ثانية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر فكلا والهمزة للإنكار والتعجيب والواو للعطف على جملة مقدرة هى مستتبعة للمعطوف كما مر فى الجملة الإنكارية السابقة أى ألم يتفكر الإنسان ولم يعلم علما يقينيا أنا خلقناه من نطفة الخ أو هى عين الجملة السابقة أعيدت تأكيدا للنكير السابق وتمهيدا لإنكار ما هو أحق منه بالإنكار والتعجيب لما أن المنكر هناك عدم علمهم بما يتعلق بخلق أسباب معايشهم وههنا عدم علمهم بما يتعلق بخلق أنفسهم ولا ريب فى أن علم الإنسان بأحوال نفسه أهم وإحاطته بها أسهل وأكمل فالإنكار والتعجيب من الإخلال بذلك أدخل كأنه قيل ألم يعلموا خلقه تعالى لأسباب معايشهم ولم يعلموا خلقه تعالى لأنفسهم أيضا مع كون العلم بذلك فى غاية الظهور ونهاية الأهمية على معنى أن المنكر الأول بعيد قبيح والثانى أبعد وأقبح ويجوز أن تكون الواو لعطف الجملة الإنكارية الثانية على الأولى على أنها متقدمة فى الاعتبار وأن تقدم الهمزة عليها لاقتضائها الصدارة فى الكلام كما هو رأى الجمهور وإيراد الإنسان مورد الضمير لأن مدار الإنكار متعلق بأحواله من حيث هو إنسان كما فى قوله تعالى (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) * وقوله تعالى (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) أى شديد الخصومة والجدال بالباطل عطف على الجملة المنفية داخل فى حيز الإنكار والتعجيب كأنه قيل أولم ير أنا خلقناه من أخس الأشياء وأمهنها ففاجأ خصومتنا فى أمر يشهد بصحته وتحققه مبدأ فطرته شهادة بينة وإيراد الجملة الاسمية للدلالة على استقراره فى الخصومة واستمراره عليها روى أن جماعة من كفار قريش منهم أبى بن خلف الجمحى وأبو جهل والعاص بن وائل والوليد بن المغيرة تكلموا فى ذلك فقال لهم أبى بن خلف ألا ترون إلى ما يقول محمد أن الله يبعث الأموات ثم قال واللات والعزى لأصيرن إليه ولأخصمنه وأخذ عظما باليا فجعل يفته بيده ويقول يا محمد أترى الله يحيى هذا بعد مارم قال صلىاللهعليهوسلم نعم ويبعثك ويدخلك جهنم فنزلت وقيل معنى قوله تعالى (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) فإذا هو بعد ما كان ماء مهينا رجل مميز منطيق قادر على الخصام مبين معرب عما فى نفسه فصيح فهو حينئذ معطوف على خلقناه غير داخل تحت الإنكار والتعجيب بل هو من متممات شواهد صحة البعث فقوله تعالى