(فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ) (٧٩)
____________________________________
(فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) عطف على (يَحْكُمانِ) فإنه فى حكم الماضى وقرىء فأفهمناها والضمير للحكومة أو الفتيا روى أنه دخل على داود عليهالسلام رجلان فقال أحدهما إن غنم هذا دخلت فى حرثى ليلا فأفسدته فقضى له بالغنم فخرجا فمرا على سليمان عليهالسلام فأخبراه بذلك فقال غير هذا أرفق بالفريقين فسمعه داود فدعاه فقال له بحق البنوة والأبوة إلا أخبرتنى بالذى أرفق بالفريقين فقال أرى أن تدفع الغنم إلى صاحب الأرض لينتفع بدرها ونسلها وصوفها والحرث إلى أرباب الغنم ليقوموا عليه حتى يعود إلى ما كان ثم بترادا فقال القضاء ما قضيت وأمضى الحكم بذلك والذى عندى أن حكمهما عليهماالسلام كان بالاجتهاد فإن قول سليمان عليهالسلام غير هذا أرفق بالفريقين ثم قوله أرى أن تدفع الخ صريح فى أنه ليس بطريق الوحى وإلا لبت القول بذلك ولما ناشده داود عليهماالسلام لإظهار ما عنده بل وجب عليه أن يظهره بدءا وحرم عليه كتمه ومن ضرورته أن يكون القضاء السابق أيضا كذلك ضرورة استحالة نقض حكم النص بالاجتهاد بل أقول والله تعالى أعلم إن رأى سليمان عليهالسلام استحسان كما ينبىء عنه قوله أرفق بالفريقين ورأى داود عليهالسلام قياس كما أن العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى عند أبى حنيفة إلى المجنى عليه أو يفديه وببيعه فى ذلك أو يفديه عند الشافعى وقد روى أنه لم يكن بين قيمة الحرث وقيمة الغنم تفاوت وأما سليمان عليهالسلام فقد استحسن حيث جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل فى الحرث إلى أن يزول الضرر الذى أتاه من قبله كما قال أصحاب الشافعى فيمن غصب عبدا فأبق منه أنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من المنافع فإذا ظهر الآبق ترادا وفى قوله تعالى (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) دليل على رجحان قوله ورجوع داود عليهالسلام إليه مع أن الحكم المبنى على الاجتماد لا ينقض باجتهاد آخر وإن كان أقوى منه لما أن ذلك من خصائص شريعتنا على أنه ورد فى الأخبار أن داود عليهالسلام لم يكن بت الحكم فى ذلك حتى سمع من سليمان ما سمع وأما حكم المسئلة فى شريعتنا فعند أبى حنيفة رحمهالله لا ضمان إن لم يكن معبا سائق أو قائد وعند الشافعى يجب الضمان ليلا لانهارا وقوله تعالى (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) لدفع ما عسى يوهمه تخصيص سليمان عليهالسلام* بالتفهيم من عدم كون حكم داود عليهالسلام حكما شرعيا أى وكل واحد منهما آتينا حكما وعلما كثيرا لا سليمان وحده وهذا إنما يدل على أن خطأ المجتهد لا يقدح فى كونه مجتهدا وقيل بل على أن كل مجتهد مصيب وهو مخالف لقوله تعالى (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) ولو لا النقل لاحتمل توافقهما على أن قوله تعالى (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) لإظهار ما تفضل عليه فى صغره فإنه عليهالسلام كان حينئذ ابن إحدى عشرة سنة (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ) شروع فى بيان ما يختص بكل منهما من كرامته تعالى إثر بيان كرامته العامة لهما (يُسَبِّحْنَ) أى* يقدسن الله عزوجل معه بصوت يتمثل له أو يخلق الله تعالى فيها الكلام وقيل يسرن معه من السباحة