(أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) (٧١)
____________________________________
(أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) انتقال إلى توبيخ آخر والهمزة لإنكار الواقع كالأولى أى بل أيقولون به جنة أى جنون مع أنه أرجح الناس عقلا وأثقبهم ذهنا وأتقنهم رأيا وأوفرهم رزانة ولقد روعى فى هذه التوبيخات الأربعة التى اثنان منها متعلقان بالقرآن والباقيان به صلىاللهعليهوسلم الترقى من الأدنى إلى الأعلى حيث وبخوا أولا بعدم التدبر وذلك يتحقق مع كون القول غير متعرض له بوجه من الوجوه ثم وبخوابشىء لو اتصف به القول لكان سببا لعدم تصديقهم به ثم وبخوا بما يتعلق بالرسول صلىاللهعليهوسلم من عدم معرفتهم به صلىاللهعليهوسلم وذلك يتحقق بعدم المعرفة* بخير ولا شر ثم بما لو كان فيه صلىاللهعليهوسلم ذلك لقدح فى رسالته صلىاللهعليهوسلم (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ) إضراب عما يدل عليه ما سبق أى ليس الأمر كما زعموا فى حق القرآن والرسول صلىاللهعليهوسلم بل جاءهم صلىاللهعليهوسلم بالحق أى الصدق الثابت الذى لا محيد عنه أصلا ولا مدخل فيه للباطل بوجه من الوجوه (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ) من حيث هو حق أى حق كان لا لهذا* الحق فقط كما ينبىء عنه الإظهار فى موقع الإضمار (كارِهُونَ) لما فى جبلتهم من الزيغ والانحراف المناسب للباطل ولذلك كرهوا هذا الحق الأبلج وزاغوا عن الطريق الأنهج وتخصيص أكثرهم بهذا الوصف لا يقتضى إلا عدم كرامة الباقين لكل حق من الحقوق وذلك لا ينافى كراهتهم لهذا الحق المبين فتأمل وقيل تقييد الحكم بالأكثر لأن منهم من ترك الإيمان استنكافا من توبيخ قومه أو لقلة فطنته وعدم تفكره لا لكراهته الحق وأنت خبير بأن التعرض لعدم كراهة بعضهم للحق مع اتفاق الكل على الكفر به مما لا يساعده المقام أصلا (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) استئناف مسوق لبيان أن أهواءهم الزائغة التى ما كرهوا الحق إلا لعدم موافقته إياها مقتضية للطامة أى لو كان ما كرهوه من الحق الذى من جملته ما جاء به صلىاللهعليهوسلم* موافقا لاهوائهم الباطلة (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) وخرجت عن الصلاح والانتظام بالكلية لأن مناط النظام ليس إلا ذلك وفيه من تنويه شأن الحق والتنبيه على سمو مكانه ما لا يخفى وأما ما قيل لو اتبع الحق الذى جاء به صلىاللهعليهوسلم أهواءهم وانقلب شركا لجاء الله تعالى بالقيامة ولأهلك العالم ولم يؤخر ففيه أنه لا يلائم فرض مجيئه صلىاللهعليهوسلم به وكذا ما قيل لو كان فى الواقع إلهان لا يناسب المقام وأما ما قيل لو* اتبع الحق أهواءهم لخرج عن الإلهية فمما لا احتمال له أصلا (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) انتقال من تشنيعهم بكراهة الحق الذى به يقوم العالم إلى تشنيعهم بالإعراض عما جبل عليه كل نفس من الرغبة فيما فيه خيرها والمراد بالذكر القرآن الذى هو فخرهم وشرفهم حسبما ينطق به قوله تعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أى بل أتيناهم* بفخرهم وشرفهم الذى كان يجب عليهم أن يقبلوا عليه أكمل إقبال (فَهُمْ) بما فعلوه من النكوص (عَنْ ذِكْرِهِمْ) أى فخرهم وشرفهم خاصة (مُعْرِضُونَ) لا عن غير ذلك مما لا يوجب الإقبال عليه والاعتناء به وفى وضع للظاهر موضع الضمير مزيد تشنيع لهم وتقريع والفاء لترتيب ما بعدها من إعراضهم عن ذكرهم