(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٤)
____________________________________
بيان لاستبداده سبحانه فى التقدير والتدبير ونفى للشفاعة على أبلغ الوجوه فإن نفى جميع أفراد الشفيع بمن الاستغراقية يستلزم نفى الشفاعة على أتم الوجوه كما فى قوله تعالى (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) وهذا بعد قوله تعالى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) جار مجرى قوله تعالى (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) عقيب قوله تعالى (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) وقوله تعالى (إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) استثناء مفرغ من أعم الأوقات أى ما من شفيع يشفع* لأحد فى وقت من الأوقات إلا بعد إذنه المبنى على الحكمة الباهرة وذلك عند كون الشفيع من المصطفين الأخيار والمشفوع له ممن يليق بالشفاعة كقوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) وفيه من الدلالة على عظمة جلاله سبحانه ما لا يخفى (ذلِكُمُ) إشارة إلى* المعلوم بتلك العظمة أى ذلكم العظيم الشأن المنعوت بما ذكر من نعوت الكمال التى عليها يدور استحقاق الألوهية (اللهُ) وقوله تعالى (رَبَّكُمُ) بيان له أو بدل منه أو خبر ثان لاسم الإشارة وهذا بعد بيان أن* ربهم الله الذى خلق السموات والأرض الخ لزيادة التقرير والمبالغة فى التذكير ولتفريع الأمر بالعبادة عليه بقوله تعالى (فَاعْبُدُوهُ) أى وحدوه من غير أن تشركوا به شيئا من ملك أو نبى فضلا عن جماد لا يبصر* ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع وآمنوا بما أنزله إليكم (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أى أتعلمون أن الأمر كما فصل* فلا تتذكرون ذلك حتى تقفوا على فساد ما أنتم عليه فترتدعوا عنه (إِلَيْهِ) لا إلى أحد سواه استقلالا أو ٤ اشتراكا (مَرْجِعُكُمْ) أى بالبعث كما ينبىء عنه قوله تعالى (جَمِيعاً) فإنه حال من الضمير المجرور لكونه* فاعلا فى المعنى أى إليه رجوعكم مجتمعين والجملة كالتعليل لوجوب العبادة (وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد* لنفسه لأن قوله عزوجل (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) وعد منه سبحانه بالبعث أو لفعل مقدر أى وعد الله وأيا ما كان فهو دليل على أن المراد بالمرجع هو الرجوع بالبعث لأن ما بالموت بمعزل من الوعد كما أنه بمعزل من الاجتماع وقرىء بصيغة الفعل (حَقًّا) مصدر آخر مؤكد لما دل عليه الأول (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) وقرىء* يبدىء (ثُمَّ يُعِيدُهُ) وهو استئناف علل به وجوب المرجع إليه سبحانه وتعالى فإن غاية البدء والإعادة* هو جزاء المكلفين بأعمالهم حسنة أو سيئة وقرىء بالفتح أى لأنه ويجوز كونه منصوبا بما نصب وعد الله أى وعد الله وعدا بدء الخلق ثم إعادته ومرفوعا بما نصب حقا أى حق حقا بدء الخلق الخ (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) أى بالعدل وهو حال من فاعل يجزى أى ملتبسا بالعدل أو متعلق بيجزى أى ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجورهم وإنما أجمل ذلك إيذانا بأنه لا يفى به الحصر أو بقسطهم وعدلهم عند إيمانهم ومباشرتهم للأعمال الصالحة وهو الأنسب بقوله عزوجل (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) فإن معناه ويجزى الذين كفروا بسبب كفرهم وتكرير الإسناد بجعل الجملة الظرفية خبرا للموصول لتقوية الحكم والجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل للدلالة