(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ)(٣٠)
____________________________________
من خلق السموات والأرض وما فيها على هذا النمط البديع المنطوى على الحكم الفائقة والمصالح اللائقة فإن علمه عزوجل بجميع الأشياء ظاهرها وباطنها بارزها وكامنها وما يليق بكل واحد منها يستدعى أن يخلق كل ما يخلقه على الوجه الرائق وقرىء وهو بسكون الهاء تشبيها له بعضد. (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) بيان لأمر آخر من جنس الأمور المتقدمة المؤكدة للإنكار والاستبعاد فإن خلق آدم عليهالسلام وما خصه به من الكرامات السنية المحكية من أجل النعم الداعية لذريته إلى الشكر والإيمان الناهية عن الكفر والعصيان وتقرير لمضمون ما قبله من قوله تعالى (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) وتوضيح لكيفية التصرف والانتفاع بما فيها وتلوين الخطاب بتوجيه إلى النبى صلىاللهعليهوسلم خاصة للإيذان بأن فحوى الكلام ليس مما يهتدى إليه بأدلة العقل كالأمور المشاهدة التى نبه عليها الكفرة بطريق الخطاب بل إنما طريقه الوحى الخاص به عليهالسلام وفى التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميره عليهالسلام من الإنباء عن تشريفه عليهالسلام ما لا يخفى وإذ ظرف موضوع لزمان نسبة ماضية وقع فيه نسبة أخرى مثلها كما أن إذا موضوع لزمان نسبة مستقبلة يقع فيه أخرى مثلها ولذلك يجب إضافتهما إلى الجمل وانتصابه بمضمر صرح بمثله فى قوله عزوجل (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) وقوله تعالى (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ) وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودة بالذات للمبالغة فى إيجاب ذكرها لما أن إيجاب ذكر الوقت إيجاب لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهانى ولأن الوقت مشتمل عليها فإذا استحضر كانت حاضرة بتفاصيلها كأنها مشاهدة عيانا وقيل ليس انتصابه على المفعولية بل على تأويل اذكر الحادث فيه بحذف المظروف وإقامة الظرف مقامه وأياما كان فهو معطوف على مضمر آخر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل له عليهالسلام غب ما أوحى إليه ما خوطب به الكفرة من الوحى الناطق بتفاصيل الأمور السابقة الزاجرة عن الكفر به تعالى ذكرهم بذلك واذكر لهم هذه النعمة ليتنبهوا بذلك لبطلان ما هم فيه وينتهوا عنه وأما ما قيل من أن المقدر هو اشكر النعمة فى خلق السموات والأرض أو تدبر ذلك فغير سديد ضرورة أن مقتضى المقام تذكير المخلين بمواجب الشكر وتنبيههم على ما يقتضيه وأين ذاك من مقامه الجليل صلىاللهعليهوسلم وقيل انتصابه بقوله تعالى (قالُوا) ويأباه أنه يقتضى أن يكون هو المقصود بالذات دون سائر القصة وقيل بما سبق من قوله تعالى (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) ولا يخفى بعده وقيل بمضمر دل عليه مضمون الآية المتقدمة مثل وبدأ خلقكم إذ قال الخ ولا ريب فى أنه لا فائدة فى تقييد بدء الخلق بذلك الوقت وقيل بخلقكم أو بأحياكم مضمرا وفيه ما فيه وقيل إذ زائدة ويعزى ذلك إلى أبى عبيد ومعمر وقيل أنه بمعنى قد واللام فى قوله عز قائلا. (لِلْمَلائِكَةِ) للتبليغ وتقديم الجار والمجرور فى هذا الباب مطرد لما فى المقول من الطول غالبا مع ما فيه من