(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)(٢٧)
____________________________________
البقرة ذلك أقلية أهل الهدى بالنسبة إلى أهل الضلال حسبما نطق به قوله تعالى (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) ونحو ذلك واعتبار كثرتهم الذاتية دون قلتهم الإضافية لتكميل فائدة ضرب المثل وتكثيرها ويجوز أن يرادفى الأولين الكثرة من حيث العدد وفى الآخرين من حيث الفضل والشرف كما فى قول من قال[إن الكرام كثير فى البلاد وإن قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا] وإسناد الإضلال أى خلق الضلال إليه سبحانه مبنى على أن جميع الأشياء مخلوقة له تعالى وإن كان أفعال العباد من حيث الكسب مستندة إليهم وجعله من قبيل إسناد الفعل إلى سببه يأباه التصريح بالسبب وقرىء يضل به كثير ويهدى به كثير على البناء للمفعول وتكرير به مع جواز الاكتفاء بالأول لزيادة تقرير السببيه وتأكيدها. (وَما يُضِلُّ بِهِ) أى بالمثل أو بضربه. (إِلَّا الْفاسِقِينَ) عطف على ما قبله وتكملة للجواب والرد وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له وإشارة إلى أن ذلك ليس إضلالا ابتدائيا بل هو تثبيت على ما كانوا عليه من فنون الضلال وزيادة فيه وقرىء وما يضل به إلا الفاسقون على البناء للمفعول والفسق فى اللغة الخروج يقال فسقت الرطبة عن قشرها والفأرة من جحرها أى خرجت قال رؤبة[يذهبن فى نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا] وفى الشريعة الخروج عن طاعة الله عزوجل بارتكاب الكبيرة التى من جملتها الإصرار على الصغيرة وله طبقات ثلاث الأولى التغابى وهو ارتكابها أحيانا مستقبحا لها والثانية الانهماك فى تعاطيها والثالثة المثابرة عليها مع جحود قبحها وهذه الطبقة من مراتب الكفر فما لم يبلغها الفاسق لا يسلب عنه اسم المؤمن لاتصافه بالتصديق الذى عليه يدور الإيمان ولقوله تعالى (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) والمعتزلة لما ذهبوا إلى أن الإيمان عبارة عن مجموع التصديق والإقرار والعمل والكفر عن تكذيب الحق وجحوده ولم يتسن لهم إدخال الفاسق فى أحدهما فجعلوه قسما بين قسمى المؤمن والكافر لمشاركته كل واحد منهما فى بعض أحكامه والمراد بالفاسقين ههنا العاتون الماردون فى الكفر الخارجون عن حدوده ممن حكى عنهم ما حكى من إنكار كلام الله تعالى والاستهزاء به وتخصيص الإضلال بهم مترتبا على صفة الفسق وما أجرى عليهم من القبائح للإيذان بأن ذلك هو الذى أعدهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال فإن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم على الباطل صرفت وجوه أنظارهم عن التدبر فى حكمة المثل إلى حقارة الممثل به حتى رسخت به جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروه وقالوا فيه ما قالوا. (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) صفة للفاسقين للذم وتقرير ما هم عليه من الفسق والنقض فسخ التركيب من المركبات الحسية كالحبل والغزل ونحوهما واستعماله فى إبطال العهد من حيث استعارة الحبل له لما فيه من ارتباط أحد كلامى المتعاهدين بالآخر فإن شفع بالحبل وأريد به العهد كان ترشيحا للمجاز وإن قرن بالعهد كان رمزا إلى ما هو من روادفه وتنبيها على مكانه وأن المذكور قد استعير له كما يقال شجاع يفترس أقرانه