الأول ـ أن أشهب قال ـ عن مالك : هي دمشق ، وقال محمد بن كعب القرظي : هي الإسكندرية. وتحقيقها أنها دمشق ، لأنها ليس في البلاد مثلها. وقد ذكرت صفتها (١) وخبرها في كتاب ترتيب الرحلة للترغيب في الملة وإليها أوت مريم ، وبها كان آدم ، وعلى الغراب جبلها دم هابيل في الحجر جار لم تغيّره الليالى ، ولا أثرت فيه الأيام ، ولا ابتلعته الأرض ، باطنها كظاهرها ، مدينة بأعلاها ، ومدينة بأسفلها ، تشقها تسعة أنهار ، للقصبة نهر ، وللجامع نهر ، وباقيها للبلد ، وتجرى الأنهار من تحتها كما تجرى من فوقها ، ليس فيها كظامة ولا كنيف ، ولا فيها دار ، ولا سوق ، ولا حمام ، إلا ويشقه الماء ليلا ونهارا دائما أبدا ، وفيها دور قد مكّنوا أنفسهم من سعة الأحوال بالماء ، حتى إن مستوقدهم عليه ساقية ، فإذا طبخ الطعام وضع في القصعة ، وأرسل في الساقية ، فيجري إلى المجلس فيوضع في المائدة ، ثم ترد القصعة من الناحية الأخرى إلى (٢) المستوقد فارغة ، فترسل أخرى ملأى ، وهكذا حتى يتم الطعام. وإذا كثر الغبار في الطرقات أمر صاحب الماء أن يطلق النهر على الأسواق والأرباض فيجري الماء عليها ، حتى يلجأ الناس في الأسواق والطرقات إلى الدكاكين ، فإذا كسح غبارها سكن الساقيانى (٣) أنهارها فمشيت في الطرق على برد الهواء ونقاء الأرض. ولها باب جيرون بن سعد بن عبادة ، وعنده القبة العظيمة والميقاتات لمعرفة الساعات ، وعليها باب الفراديس ليس في الأرض مثله ، عنده كان مقرّى ، وإليه من الوحشة كان مفرّى ، وإليه كان انفرادي للدرس والتقرير. وفيها الغوطة مجمع الفاكهات ، ومناط الشهوات ، عليها (٤) تجرى المياه ، ومنها (٥) تجنى الثمرات ، وإن في الإسكندرية لعجائب لو لم يكن إلا المنار فإنها مبنيّة الظاهر والباطن على العمد ، ولكن لها أمثال ، فأما دمشق فلا مثال لها.
وقد روى معن عن مالك أن كتابا وجد بالإسكندرية فلم يدر ما هو ، فإذا فيه : أنا شداد بن عاد الذي رفع العماد ، بنيّتها حين لا شيب ولا موت ، قال مالك : إن كان لتمر بهم مائة سنة لا يرون بها جنازة.
__________________
(١) في م : وقد ذكر ترتيبها. وفي ش : وقد ذكرت ترتيبها.
(٢) في ش ، م : في.
(٣) في ا : الساقيات. والمثبت من ش ، م.
(٤) في ش ، م : عليه.
(٥) في ش ، م : ومنه.