وأما من قال : إنه الذي بأيدى الملائكة من الصّحف فإنه قول محتمل ؛ وهو الذي اختاره مالك ، قال : أحسن ما سمعت في قوله : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) أنها بمنزلة الآية التي في «عبس وتولّى» (١) : (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرامٍ بَرَرَةٍ) يريد أنّ المطهّرين هم الملائكة الذين وصفوا بالطهارة في سورة «عبس».
وأما من قال : إنه أمر بالوضوء [بالقرآن] (٢) إذا أراد أحد أن يمسّ صحفه (٣) ، فإنهم اختلفوا ؛ فمنهم من قال : إنّ لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر ، وقد بينا فساد ذلك في كتب الأصول ، وفيما تقدم من كلامنا في هذا الكتاب ، وحقّقنا أنه خبر عن الشرع ، أى لا يمسّه إلا المطهرون شرعا ، فإن وجد بخلاف ذلك فهو غير الشرع.
وأما من قال : إنّ معناه لا يجد طعمه إلا المطهرون من الذنوب التائبون العابدون فهو صحيح ، اختاره البخاري ؛ قال النبي صلّى الله عليه وسلم : ذاق طعم الإسلام (٤) من رضى بالله ربّا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلّى الله عليه وسلم نبيّا ؛ لكنه عدول عن الظاهر لغير ضرورة عقل ولا دليل سمع.
وقد روى مالك وغيره أنّ في كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسخته : من محمد النبي إلى شرحبيل بن (٥) عبد كلال ، والحارث بن عبد كلال ، ونعيم بن عبد كلال ، قيل ذي رعين ومعافر وهمدان : أما بعد ـ وكان في كتابه ألّا يمسّ القرآن إلا طاهر.
وقد روى أنّ عمر بن الخطاب دخل على أخته وزوجها سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وهما يقرآن طه ، فقال : ما هذه الهينمة (٦)! وذكر الحديث إلى أن قال : هاتوا الصحيفة. فقالت له أخته : إنه لا يمسّه (٧) إلّا المطهّرون. فقام واغتسل وأسلم. وقد قال أبو بكر الصديق يرثى النبي صلّى الله عليه وسلم :
__________________
(١) آية ١٢ ، ١٣ ، ١٤ ، ١٥ ، ١٦ من تلك السورة.
(٢) ليس في ش.
(٣) في ش : يمس المصحف.
(٤) في ش : الإيمان.
(٥) في ا : أبى عبد كلال.
(٦) الهينمة : الكلام الخفى لا يفهم (النهاية).
(٧) في ش : لا يمسها.