وقال أبو حنيفة : إنه يرجع الاستثناء إلى أقرب مذكور. والصحيح رجوعه إلى الجميع لغة وشريعة ، ألا ترى إلى قوله تعالى (١) : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ، ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وهذه الآية أختها ونظيرتها في المقصود.
وأما قبول الشهادة قبل الحدّ فلأنه إذا لم يقم عليه الحد فحاله متردد بين الكذب السالب للعدالة ، وبين الصدق المصحّح لها ، فلا يسقط يقين حاله بمحتمل مقاله ، وبهذا يتبيّن ضعف مقالة شريح.
وأما قول إبراهيم فإن لم (٢) يكن مثل قول أبى حنيفة وإلا فلا معنى له.
الآية الخامسة ـ قوله تعالى (٣) : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ).
فيها أربع عشرة مسألة :
المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (٤).
وذلك أن الله تعالى لما أنزل قوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ...) الآية كان ذلك عاما في الزوجات وغيرهن ، فلما علم الله من ضرورة الخلق في التكلم بحال الزوجات جعل لهم مخلصا من ذلك باللعان ، على ما روى ابن عباس أنه قال : لما نزلت هذه الآية (٥) : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) قال سعد (٦) بن عبادة : أهكذا نزلت يا رسول الله؟ لو أتيت (٧) لكاع وقد تفخّذها رجل لم يكن لي أن أهيجه وأخرجه حتى آتى بأربعة شهداء! فو الله ما كنت لآتى بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا معشر الأنصار ، أما تسمعون ما يقول سيّدكم؟
__________________
(١) سورة المائدة ، آية ٣٣ ، ٣٤.
(٢) في م : فهو مثل قولة أبى حنيفة.
(٣) آية ٦.
(٤) أسباب النزول : ١٨٠.
(٥) آية ٤.
(٦) في القرطبي : سعد بن معاذ (١٢ ـ ١٨٣).
(٧) في م : لو رأيت.
(٨) من م.