إن اعتقاد الكرية أو عدمها ليس بأمر لازم في الشريعة لكن كريتها كالأمر اليقيني وإن لم تكن حقيقة ووجه توسيط (لَكُمُ) بين الجعل ومفعوله الصريح يعلم مما مر غير مرة (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً) طرقا (فِجاجاً) واسعات جمع فج فهو صفة مشبهة نعت لسبلا. وقال غير واحد : هو اسم للطريق الواسعة وقيل : اسم للمسلك بين الجبلين فيكون بدلا أو عطف بيان و (من) متعلقة بما قبلها لتضمنه معنى الاتخاذ وإلّا فهو يتعدى بفي أو بمضمر هو حال من (سُبُلاً) أي سبلا كائنة من الأرض ولو تأخر لكان صفة لها (قالَ نُوحٌ) أعيد لفظ الحكاية لطول العهد بحكاية مناجاته لربه عزوجل أي قال عليهالسلام مناجيا له تعالى شاكيا إليه عزوجل (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) أي داموا على عصياني فيما أمرتهم به مع ما بالغت في إرشادهم بالعظة والتذكير (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) أي واستمروا على اتباع رؤسائهم الذين أبطرتهم أموالهم وغرتهم أولادهم وصار ذلك سببا لزيادة خسارهم في الآخرة فصاروا أسوة لهم في الخسار والظاهر أن اتباع عامتهم وسفلتهم لأولئك الرؤساء وفي وصفهم بذلك إشعار بأنهم اتبعوهم لوجاهتهم الحاصلة لهم بسبب الأموال والأولاد لا لما شاهدوا فيهم من شبهة مصححة للاتباع في الجملة. وقرأ ابن الزبير والحسن والنخعي والأعرج ومجاهد والأخوان وابن كثير أبو عمرو ونافع في رواية خارجة عنه «وولده» بضم الواو وسكون اللام فقيل هو مفرد لغة في ولد بفتحهما كالحزن والحزن وقيل جمع له كالأسد والأسد وفي القاموس الولد محركة وبالضم والكسر والفتح واحد وجمع وقد يجمع على أولاد وولدة والدة بكسرها وولد بالضم انتهى. وقرأ بالكسر والسكون الحسن أيضا والجحدري وقتادة وذر وطلحة وابن أبي إسحاق وأبو عمرو في رواية (وَمَكَرُوا) عطف على صلة (مَنْ) والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار لفظها وكان فيه إشارة إلى اجتماعهم في المكر ليكون أشد وأعظم. وقيل عطف على (عَصَوْنِي) والأول أنسب لدلالته على أن المتبوعين ضموا إلى الضلال الإضلال وهو الأوفق بالسياق فإن المتبادر أن ما بعده من صفة الرؤساء أيضا واعتبار ذلك العطف على أن المعنى مكر بعضهم ببعض وقال بعضهم لبعض خلاف المتبادر (مَكْراً كُبَّاراً) أي كبيرا في الغاية فهو من صيغ المبالغة قال عيسى بن عمر : هي لغة يمانية وعليها قول الشاعر :
بيضاء تصطاد القلوب وتستبي |
|
بالحسن قلب المسلم القراء |
وقوله :
والمرء يلحقه بفتيان الندى |
|
خلق الكريم وليس بالوضاء |
وقد سمع بعض الأعراب الجفاة رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقرأ هذه الآية فقال : ما أفصح ربك يا محمد وإذا اعتبر التنوين في مكرا للتفخيم زاد أمر المبالغة في مكرهم أي كبيرا في الغاية وذلك احتيالهم في الدين وصدهم للناس عنه وإغراءهم وتحريضهم على أذية نوح عليهالسلام. وقرأ عيسى وابن محيصن وأبو السمال «كبارا» بتخفيف الباء وهو بناء مبالغة أيضا إلّا أنها دون المبالغة في المشدد ومثل كبار في ذلك حسان وطوال وعجاب وجمال إلى ألفاظ كثيرة وقرأ زيد بن علي وابن محيصن فيما روى عنه وهب بن واضح «كبارا» بكسر الكاف وفتح الباء قال ابن الأنباري هو جمع كبير كأنه جعل (مَكْراً) مكان ذنوب أو أفاعيل يعني فلذلك وصف بالجمع (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) أي لا تتركوا عبادتها على الإطلاق إلى عبادة رب نوح عليهالسلام (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) أي ولا تتركوا عبادة هؤلاء خصوها بالذكر مع اندراجها فيما سبق لأنها كانت أكبر أصنامهم ومعبوداتهم الباطلة وأعظمها عندهم وإن كانت متفاوتة في العظم