أنهاكم عنه ولا أفرق بين أصاغركم وأكابركم في إجراء حكم الله عزوجل ، فاللام للتعليل والمأمور به محذوف ، وقيل : اللام مزيدة أي أمرت أن أعدل ويحتاج لتقدير الباء أي بأن أعدل ، ولا يخلو عن بعد (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) أي خالق الكل ومتولي أمره فليس المراد خصوص المتكلم والمخاطب (لَنا أَعْمالُنا) لا يتخطانا جزاؤها ثوابا كان أو عقابا (وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) لا يجاوزكم آثارها لننتفع بحسناتكم ونتضرر بسيئاتكم (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) أي لا احتجاج ولا خصومة لأن الحق قد ظهر فلم يبق للاحتجاج حاجة ولا للمخالفة محمل سوى المكابرة والعناد ، وجاءت الحجة هنا على أصلها فإنها في الأصل مصدر بمعنى الاحتجاج كما ذكره الراغب وشاعت بمعنى الدليل وليس بمراد (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) يوم القيامة (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فيفصل سبحانه بيننا وبينكم ، وليس في الآية ما يدل على متاركة الكفار رأسا حتى تكون منسوخة بآية السيف ، وادعى أبو حيان أن ما يظهر منها الموادعة المنسوخة بتلك الآية.
(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) أي يخاصمون في دينه ، قال ابن عباس ومجاهد نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام وإضلالهم فقالوا : كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فديننا أفضل من دينكم ، وفي رواية بدل فديننا إلخ فنحن أولى بالله تعالى منكم ، وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال : لما نزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) [الفتح : ١] قال المشركون بمكة لمن بين أظهرهم من المؤمنين : قد دخل الناس في دين الله أفواجا فاخرجوا من بين أظهرنا أو اتركوا الإسلام ، والمحاجة فيه غير ظاهرة ولعلهم مع هذا يذكرون ما فيه ذلك (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) أي من بعد ما استجاب الناس الله عزوجل أو لدينه ودخلوا فيه وأذعنوا له لظهور الحجة ووضوح المحجة ، والتعبير عن ذلك بالاستجابة باعتبار دعوتهم إليه (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) زائلة باطلة لا تقبل عنده عزوجل بل لا حجة لهم أصلا ، وإنما عبر عن أباطيلهم بالحجة وهي الدليل هاهنا مجاراة معهم على زعمهم الباطل.
وجوز كون ضمير (لَهُ) للرسول عليه الصلاة والسلام لكونه في حكم المذكور والمستجيب أهل الكتب واستجابتهم له صلىاللهعليهوسلم إقرارهم بنعوته واستفتاهم به قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام فإذا كانوا هم المحاجين كان الكلام في قوة والذين يحاجون في دين الله من بعد ما استجابوا لرسوله وأقروا بنعوته حجتهم في تكذيبه باطلة لما فيها من نفي ما أقروا به قبل وصدقة العيان ، وقيل : المستجيب هو الله عزوجل وضمير (لَهُ) لرسوله عليه الصلاة والسلام ، واستجابته تعالى له صلىاللهعليهوسلم بإظهار المعجزات الدالة على صدقة ، وإلى نحوه ذهب الجبائي حيث قال : أي من بعد ما استجاب الله تعالى دعاءه في كفار بدر حتى قتلهم بأيدي المؤمنين ودعائه على أهل مكة حتى قحطوا ودعاءه للمستضعفين حتى خلصهم الله تعالى من أيدي قريش وغير ذلك مما يطول تعداده ، وبطلان حجتهم لظهور خلاف ما تقتضيه بزعمهم بذلك ، وهذا ظاهر في أن هذه الآية مدنية لأن وقعة بدر بعد الهجرة وحمل (اسْتُجِيبَ) على الوعد خلاف الظاهر جدا ، وكذا ما روي عن عكرمة ، وقيل : إن حمل الاستجابة على استجابة أهل الكتاب يقتضي ذلك أيضا إذ لم يكن بمكة أحد منهم ، وقيل : لا يقتضيه لأن خبر استجابتهم وإقرارهم بنعوته صلىاللهعليهوسلم وهو عليه الصلاة والسلام بمكة بلغ أهل مكة والمجادلون محمول عليهم فلا مانع من كونها مكية (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) عظيم لمكابرتهم الحق بعد ظهوره (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) لا يقادر قدره.
(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ) جنس الكتاب أو الكتاب المعهود أو جميع الكتب (بِالْحَقِ) ملتبسا بالحق بعيدا من الباطل في أحكامه وأخباره أو ملتبسا بما يحق ويجب من العقائد والأحكام (وَالْمِيزانَ) أي العدل كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم أو الشرع الذي يوزن به الحقوق ويسوي بين الناس ، وعلى الوجهين فيه استعارة ونسبة الإنزال إليه مجز لأنه من صفات الأجسام والمنزل حقيقة من بلغه ، واعتبر بعضهم الأمر أي أنزل الأمر بالميزان ، وتعقب