الكيا وهو كما ترى (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ) بعد ما أمر سبحانه بإنكاح صالحي المماليك الأحقاء بالإنكاح أمر جل وعلا بكتابة من يستحقها منهم ليصير حرا فيتصرف في نفسه ، وأخرج ابن السكن في معرفة الصحابة عن عبد الله بن صبيح قال : كنت مملوكا لحويطب بن عبد العزى فسألته الكتابة فأبى فنزلت (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ) إلخ ويلوح من هذا أن عبد الله المذكور أول من كوتب ، وربما يتخيل منه أن الكتابة كانت معلومة من قبل لكن نقل الخفاجي عن الدميري أنه قال : الكتابة لفظة إسلامية وأول من كاتبه المسلمون عبد لعمر رضي الله تعالى عنه يسمى أبا أمية.
وصرح ابن حجر أيضا بأنها لفظة إسلامية لا تعرفها الجاهلية ، والله تعالى أعلم ، والكتاب مصدر كاتب كالمكاتبة ونظيره العتاب والمعاتبة أي والذين يطلبون منكم المكاتبة (مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ذكورا كانوا أو إناثا ، وهو عندنا شرعا اعتاق المملوك يدا حالا ورقبة مآلا وركنه الإيجاب بلفظ الكتابة أو ما يؤدي معناه والقبول نحو أن يقول المولى : كاتبتك على كذا درهما تؤديه إليّ وتعتق ويقول المملوك : قبلته وبذلك يخرج من يد المولى دون ملكه فإذا أدى كل البدل عتق وخرج من ملكه ، ومعناه كتب الحروف أي جمعها وإطلاقه على ما ذكر لأن فيه ضم حرية اليد إلى حرية الرقبة أو لأن البدل يكون في الأغلب منجما بنجوم يضم بعضها إلى بعض أو لأنه يكتب المملوك على نفسه لمولاه ثمنه ويكتب المولى له عليه العتق وهذا أوفق بصيغة المفاعلة أعني المكاتبة.
وفي إرشاد العقل السليم قالوا : معناه كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت على العتق عنده ، ثم قال : والتحقيق أن المكاتبة اسم للعقد الحاصل من مجموع كلامي المالك والمملوك كسائر العقود الشرعية المنعقدة بالإيجاب والقبول.
ولا ريب في أن ذلك لا يصدر حقيقة إلا من المتعاقدين وليس وظيفة كل منهما في الحقيقة إلا الإتيان بأحد شطريه معربا عما يتم من قبله ويصدر عنه من الفعل الخاص به من غير تعرض لما يتم من قبل صاحبه ويصدر عنه من فعله الخاص به إلا أن كلا من ذينك الفعلين لما كان بحيث لا يمكن تحققه في نفسه إلا منوطا بتحقق الآخر ضرورة أن التزام العتق بمقابلة البدل من جهة المولى لا يتصور تحققه وتحصله إلا بالتزام البدل من طرف العبد كما أن عقد البيع الذي هو تمليك المبيع بالثمن من جهة البائع لا يمكن تحققه إلا بتملكه به من جانب المشتري لم يكن بد من تضمين أحدهما الآخر وقت الإنشاء فكما أن قول البائع بعت إنشاء لعقد البيع على معنى أنه إيقاع لما يتم من قبله أصالة ولما يتم من قبل المشتري ضمنا إيقاعا متوقفا على رأيه توقفا شبيها بتوقف عقد الفضولي كذلك قول المولى كاتبتك على كذا إنشاء لعقد الكتابة أي إيقاع لما يتم من قبله من التزام العتق بمقابلة البدل أصالة ولما يتم من قبل العبد من التزام البدل ضمنا إيقاعا متوقفا على قبوله فإذا قبل تم العقد ا ه وبه ينحل إشكال صعب وارد على إسناد أفعال العقود وهو أنه إذا كان ركن كل منها الإيجاب والقبول يلزم أن لا يصح نحو بعت كذا بكذا مثلا لأن المتكلم به لم يوقع إلا ما يتم من قبله وليس ذلك بيعا شرعيا إذ لا بد في البيع الشرعي من فعل آخر أعني قبول المشتري وهو مما لم يوقعه المتكلم المذكور.
والحاصل أن إسناد باع إلى ضمير المتكلم يقتضي أنه أوقع البيع مع أنه لم يوقع إلا أحد ركنيه فكيف يصح الاسناد ، ووجه انحلال هذا بما ذكر ظاهر إلا أنه أورد عليه أن فيه دعوى يكذبها وجدان كل عاقد عاقل ألا ترى أنك إذا قلت بعت مثلا لا يخطر ببالك إيقاع ضمني منك لشراء غيرك إيقاعا متوقفا على رأيه أصلا بل قصارى ما يخطر بالبال إيقاعه الشراء دون إيقاعك لشرائه على نحو فعل الفضولي ومن ادعى ذلك فقد كابر وجدانه. وأجيب بأن الأمور