واختار الزمخشري أن الذكر على بهيمة الأنعام أو مطلقا على ما يقتضيه ظاهر كلام بعضهم كناية عن النحر ، وذكر أنه دل بذلك على المقصود الأصلي من النحر وما يميزه عن العادات. وأومأ فيه إلى أن الأعمال الحجية كلها شرعت للذكر. وأنه قيل : (عَلى ما رَزَقَهُمْ) إلى آخره تشويقا في التقرب ببهيمة الأنعام المراد بها الإبل والبقر والضأن والمعز إلى الرازق وتهوينا عليهم في الإنفاق مع ما في ذلك من الإجمال والتفسير ، وظرفية الأيام المعلومات على القول بأنها عشر ذي الحجة للنحر باعتبار أن يوم النحر منها ، وقد يقال مثل ذلك على تقدير إيفاء الذكر على ما يتبادر منه (فَكُلُوا مِنْها) التفات إلى الخطاب والفاء فصيحة أي فاذكروا اسم الله تعالى على ضحاياكم فكلوا من لحومها ، والأمر للإباحة بناء على أن الأكل كان منهيا عنه شرعا. وقد قالوا : إن الأمر بعد المنع يقتضي الإباحة ، ويدل على سبق النهي قوله صلىاللهعليهوسلم : «كنت نهيتكم عن أكل لحوم الأضاحي فكلوا منها وادّخروا» وقيل لأن أهل الجاهلية كانوا يتحرجون فيه أو للندب على مواساة الفقراء ومساواتهم في الأكل منها ، وهذا على ما قال الخفاجي مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه.
(وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ) أي الذي أصابه بؤس أي شدة ، وعن مجاهد وعكرمة تفسيره بالذي يمد كفيه إلى الناس يسأل (الْفَقِيرَ) أي المحتاج ، والأمر للندب عند الإمام على ذكره الخفاجي أيضا ، ويستحب كما في الهداية أن لا ينقص ما يطعم عن الثلث لأن الجهات الأكل والإطعام الثابتان بالآية والادخار الثابت بالحديث فتقسم الأضحية عليها أثلاثا ؛ وقال بعضهم : لا تحديد فيما يؤكل أو يطعم لإطلاق الآية ، وأوجب الشافعية الإطعام وذهب قوم إلى أن الأكل من الأضحية واجب أيضا. وتخصيص البائس الفقير بالإطعام لا ينفي جواز إطعام الغني ، وقد يستدل على الجواز بالأمر الأول لإفادته جواز أكل الذابح ومتى جاز أكله وهو غني جاز أن يؤكله غنيا (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) هو في الأصل الوسخ والقذر ، وعن قطرب تفث الرجل كثر وسخه في سفره ، وقال أبو محمد البصري : التفث من التف وهو وسخ الأظفار وقلبت الفاء ثاء كما في مغثور ، وفسره جمع هنا بالشعور والأظفار الزائدة ونحو ذلك ، والقضاء في الأصل القطع والفصل وأريد به الإزالة مجازا أي ليزيلوا ذلك بتقليم الأظفار والأخذ من الشوارب والعارضين كما في رواية عن ابن عباس ونتف الإبط وحلق الرأس والعانة ، وقيل : القضاء مقابل الأداء والكلام على حذف مضاف أي ليقضوا إزالة تفثهم ، والتعبير بذلك لأنه لمضي زمان إزالته عد الفعل قضاء لما فات. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم أنه قال : التفث النسك كله من الوقوف بعرفة والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار ، والقضاء على هذا بمعنى الأداء كأنه قيل : ثم ليؤدوا نسكهم. وكان التعبير عن النسك بالتفث لما أنه يستدعي حصوله فإن الحجاج ما لم يحلوا شعث غبر وهو كما ترى ، وقد يقال : إن المراد من إزالة التفث بالمعنى السابق قضاء المناسك كلها لأنها لا تكون إلا بعده فكأنه أراد أن قضاء التفث هو قضاء النسك كله بضرب من التجوز ويؤيده ما أخرجه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : قضاء التفث قضاء النسك كله.
(وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم ، وعن ابن عباس تخصيص ذلك بما ينذرونه من نحر البدن ، وعن عكرمة هي مواجب الحج ، وعن مجاهد ما وجب من الحج والهدي وما نذره الإنسان من شيء يكون في الحج فالنذر بمعنى الواجب مطلقا مجازا. وقرأ شعبة عن عاصم «وليوفوا» مشددا (وَلْيَطَّوَّفُوا) طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة الذي هو من أركان الحج وبه تمام التحلل فإنه قرينة قضاء التفث بالمعنى السابق ، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وجماعة بل قال الطبري وإن لم يسلم له : لا خلاف بين المتأولين في أنه طواف الإفاضة ويكون ذلك يوم النحر ، وقيل : طواف الصدر وهو طواف الوداع وفي عدة من المناسك خلاف (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)