(ائْتُونِي بِهِ) لما رأى من علمه وفضله وأخباره عما لا يعلمه إلّا اللطيف الخبير (فَلَمَّا جاءَهُ) أي يوسف عليهالسلام (الرَّسُولُ) وهو صاحبه الذي استفتاه ، وقال له : إن الملك يريد أن تخرج إليه.
(قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) أي سيدك وهو الملك (فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) أي فتشه عن شأنهن وحالهن ، وإنما لم يقل فاسأله أن يفتش عن ذلك حثا للملك على الجد في التفتيش لتتبين براءته وتتضح نزاهته فإن السؤال عن شيء مما يهيج الإنسان ويحركه للبحث لأنه يأنف من الجهل ، ولو قال : سله أن يفتش لكان تهييجا له عن الفحص عن ذلك ، وفيه جراءة عليه فربما امتنع منه ولم يلتفت إليه ، وإنما لم يتعرض عليهالسلام لامرأة العزيز مع أنها الأصل الأصيل لما لاقاه تأدبا وتكرما ، ولذا حملها ذلك على الاعتراف بنزاهته وبراءة ساحته ، وقيل : احترازا عن مكرها حيث اعتقدها باقية في ضلالها القديم ، وأما النسوة فقد كان يطمع في صدعهن بالحق وشهادتهن بإقرارها بأنها راودته عن نفسه فاستعصم ، ولذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدي ولم يصرح بمراودتهن له واكتفى بالإيماء إلى ذلك بقوله : (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) مجاملة معهن واحترازا عن سوء مقالتهن وانتصابهن عند رفعهن إلى الملك للخصومة عن أنفسهن متى سمعن بنسبته لهن إلى الفساد ، وفي الكشاف أنه عليهالسلام أراد بهذا أنه كيد عظيم لا يعلمه إلّا الله تعالى ، أو استشهد بعلم الله تعالى على أنهن كدنه وأنه بريء مما قرف به ، أو أراد الوعيد لهن ـ أي عليم بكيدهن ـ فمجازيهن عليه انتهى.
وكان الحصر على الأول من قربه من زيد يعلم وصلوحه لإفادته عنده (١) أو من اقتضاء المقام لأنه إذا حمله على السؤال ثم أضاف علمه إلى الله تعالى دلّ به على عظمته ، وأن الكنه غير مأمول الوصول لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله ، وهذا هو الوجه ، وفيه زيادة تشويق وبعث إلى تعرف الأمر ، فالجملة عليه تتميم لقوله : (فَسْئَلْهُ) إلخ والكيد اسم لما كدنه به ، وعلى الوجه الثاني تكون تذييلا كأنه (٢) قيل : احمله على التعرف يتبين له براءة ساحتي فإن الله سبحانه يعلم أن ذلك كان كيدا منهن وإذا كان كيدا يكون لا محالة بريئا ، والكيد هو الحدث ؛ وعلى الثالث تحتملهما ؛ والمعنى بعث الملك على الغضب له والانتقام له والانتقام منهن ، وإلّا لم يتلاءم الكلام ولا يطابق كرم يوسف عليهالسلام الذي عجب منه نبينا عليه الصلاة والسّلام ؛ فقد أخرج غير واحد عن ابن عباس وابن مسعود عنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم أنه قال : «لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله تعالى يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى اشترطت أن يخرجوني ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر أن كان حليما ذا أناة» ودعاؤه له صلّى الله تعالى عليه وسلّم قيل : إشارة إلى ترك العزيمة بالرخصة وهي تقديم حق الله تعالى بتبليغ التوحيد والرسالة على براءة نفسه ، وجعله العلامة الطيبي من قبيل قولك لمن تعظمه : رضي الله تعالى عنك ما جوابك عن كلامي ، وقيل : يمكن أن يقال : إن في براءته النفس من حق الله تعالى ما فيها فإنها إذا تحققت عندهم وقع ما تلاها موقع القبول ، وقد ذكر أن الاجتهاد (٣) في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها ، فقد قال صلّى الله تعالى عليه وسلّم : «من كان يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم».
__________________
(١) أي صاحب الكشاف ا ه منه.
(٢) وقال الطيبي : كأنه قال : والله تعالى شاهدي وشهادة الله تعالى تلك الأمارات الدالة على براءته ا ه ولا يحتاج إلى هذا ففي الكيد غنية على أنه حسن ا ه منه.
(٣) وزعم بعضهم أن الآية تدل على ذلك وفيه نظر ا ه منه.