الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) [الأنبياء : ١٠١] (وَمَنْ آمَنَ) عطف على الأهل أي والمؤمنين من غيرهم وإفراد أولئك منهم للاستثناء المذكور ، وإيثار صيغة الافراد في (آمَنَ) محافظة على لفظ (مِنْ) للإيذان بالقلة كما أفصح عن ذلك قوله تعالى : (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) قيل : كانوا سبعة زوجته وأبناؤه الثلاثة وكنائنه الثلاث ، وروي هذا عن قتادة والحكم بن عقبة وابن جريج ومحمد بن كعب ، ويرده عطف (وَمَنْ آمَنَ) على الأهل إلا أن يكون الأهل بمعنى الزوجة فإنه قد ثبت بهذا المعنى لكن قيل : إنه خلاف الظاهر ، والاستثناء عليه منقطع أيضا ، وعن ابن إسحاق أنهم عشرة خمسة رجال وخمس نسوة ، وعنه أنهم كانوا مع نوح عليهالسلام عشرين نصفهم رجال ونصفهم الآخر نساؤهم ، وقيل : كانوا ثمانية وسبعين نصفهم ذكور ونصفهم إناث ، وقيل : كانوا ثمانين رجلا وثمانين امرأة ـ وقيل : والرواية الصحيحة أنهم كانوا تسعة وسبعين ، زوجته وبنوه الثلاثة ونساؤهم واثنان وسبعون رجلا وامرأة من غيرهم من بني شيث ، واعتبار المعية في الإيمان للإيماء إلى المعية في مقر الإيمان والنجاة.
(وَقالَ) أي نوح عليهالسلام لمن معه من المؤمنين كما ينبئ عنه قوله تعالى : (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).
وقيل : الضمير لله تعالى ، وفيه أنه لو كان كذلك لكان المناسب إن ربكم إلخ ، ولعل هذا القول بعد إدخال ما أمر بحمله في الفلك من الأزواج كأنه قيل : فحمل الأزواج حسبما أمر أو أدخلها في الفلك ، وقال للمؤمنين (ارْكَبُوا فِيها) أي صيروا فيها ، وجعل ذلك ركوبا لأنها في الماء كالمركوب في الأرض ففيه استعارة تبعية من حيث تشبيه الصيرورة فيها بالركوب ، وقيل : استعارة مكنية والتعدية بفي لاعتبار الصيرورة وإلا فالفعل يتعدى بنفسه ، وإلى هذا ذهب القاضي البيضاوي ، وقيل : التعدية بذلك لأنه ضمن معنى ادخلوا ، وقيل : تقديره اركبوا الماء فيها ، وقيل : في زائدة للتوكيد ، وكأن الأول أولى ، وقال بعض المحققين : الركوب العلو على شيء متحرك ويتعدى بنفسه واستعماله هاهنا بفي ليس لأن المأمور به كونهم في جوفها لا فوقها كما ظن فإن أظهر الروايات أنه عليهالسلام ركب هو ومن معه في الأعلى بل لرعاية جانب المحلية والمكانية في الفلك.
والسر فيه أن معنى الركوب العلو على شيء له حركة إما إرادية كالحيوان أو قسرية كالسفينة والعجلة ونحوهما فإذا استعمل في الأول توفر له حظ الأصل فيقال : ركبت الفرس ، وعليه قوله تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها) [النحل : ٨] وإن استعمل في الثاني يلوح بمحلية المفعول بكلمة في فيقال : ركبت في السفينة ، وعليه الآية الكريمة ، وقوله سبحانه : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) [العنكبوت : ٦٥] و (حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) [الكهف : ٧١] انتهى ، وظاهره أن الركوب هاهنا حقيقي. وصرح بعضهم أنه ليس به.
وقال الراغب : الركوب في الأصل كون الإنسان على ظهر حيوان ، وقد يستعمل في السفينة ، وفيه تأكيد لما صرح به البعض (بِسْمِ اللهِ) حال من فاعل (١)(ارْكَبُوا) والباء للملابسة ولما كانت ملابسة اسم الله عز اسمه بذكره قالوا : المعنى اركبوا مسمين الله ، وجوزوا أن تكون الحال محذوفة وهذا معمول لها سادّ مسدّها ولذلك سموه حالا ، والأصل (ارْكَبُوا) قائلين (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) نصب على الظرفية أي وقت إجرائها وإرسائها على أنهما اسما زمان أو مصدران ميميان بمعنى الإجراء والإرساء ، ويقدر مضاف محذوف وهو وقت كما في قولك : أتيتك خفوق النجم فإن التقدير وقت خفوقه إلا أنه لما حذف المضاف سدّ المضاف إليه مسده وانتصب انتصابه وهو
__________________
(١) قوله : حال من فاعل اركبوا في طرة الأصل بخطه رحمهالله ما نصه ، وجوز في هذه الحال أن تكون مقارنة وأن تكون مقدرة بناء على أن الركوب المأمور به ليس إحداثه بل الاستمرار عليه.