بمحصر من القوم
فيكون متضمنا لحثهم على الاتعاظ فإن بت القول بهلاكهم أو عذابهم مما يلقي في
قلوبهم الخوف والخشية ، وقيل قائلو ذلك المعتدون في السبت قالوا : تهكما بالناصحين
المخوفين لهم بالهلاك والعذاب ، وفيه بعد كما ستقف عليه قريبا إن شاء الله تعالى (قالُوا) أي المقول لهم ذلك (مَعْذِرَةً إِلى
رَبِّكُمْ) أي نعظهم معذرة إليه تعالى على أنه مفعول وهو الأنسب بظاهر
قولهم : لم تعظون أو نعتذر معذرة على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف ، وقيل : هو مفعول
به للقول وهو إن كان مفردا في معنى الجملة لأنه الكلام الذي يعتذر به. والمعذرة في
الأصل بمعنى العذر وهو التنصل من الذنب ، وقال الأزهري : إنه بمعنى الاعتذار ،
وعداه بإلى لتضمنه معنى الإنهاء والإبلاغ ، وفي إضافة الرب إلى ضمير المخاطبين نوع
تعريض بالسائلين ، وهذا الجواب على القولين الأولين ظاهر وعلى الأخير قيل إنه من
تلقى السائل بغير ما يترقب فهو من الأسلوب الحكيم ، وقرأ من عدا حفص. والمفضل «معذرة»
بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي موعظتنا معذرة إليه تعالى حتى لا ننسب إلى نوع
تفريط في النهي عن المنكر (وَلَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ) عطف على معذرة أي ورجاء أن يتقوا بعض التقاة فإن اليأس
المحقق لا يحصل إلا بالهلاك ، قال شيخ الإسلام : وهذا صريح في أن القائلين لم
تعظون إلخ ليسوا من الفرقة الهالكة وإلا لوجب الخطاب ا ه.
وقد يوجه ذلك على
ذلك القول بأنه التفات أو مشاكلة لتعبيرهم عن أنفسهم في السؤال بقوم وإما لجعله
باعتبار غير الطائفة القائلين إلا أن كل ذلك خلاف الظاهر (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) أي تركوا ما ذكرهم به صلحاؤهم ترك الناسي للشيء وأعرضوا
عنه إعراضا كليا ، فما موصولة وجوز أن تكون مصدرية ، وهو خلاف الظاهر.
والنسيان مجاز عن
الترك ، واستظهر أنه استعارة حيث شبه الترك بالنسيان بجامع عدم المبالاة ، وجوز أن
يكون مجازا مرسلا لعلاقة السببية ، ولم يحمل على ظاهره كما قال بعض المحققين لأنه
غير واقع ولأنه لا يؤاخذ بالنسيان ولأن الترك عن عمد هو الذي يترتب عليه إنجاء
الناهين في قوله سبحانه وتعالى :
(أَنْجَيْنَا
الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) إذ لم يمتثلوا أمرهم بخلاف ما لو نسوه فإنه كان يلزمهم
تذكيرهم وظاهر الآية ترتب الإنجاء على النسيان وهو في الحقيقة مرتب على النسيان
والتذكير ، وما في حيز الشرط مشير إليهما فكأنه قيل : فلما ذكر المذكرون ولم يتذكر
المعتدون وأعرضوا عما ذكروا به أنجينا الأولين وأخذنا الآخرين ، وعنوان النهي عن
السوء شامل للذين قالوا لم تعظون إلخ وللمقول لهم ذلك ، أما شموله للمقول لهم
فواضح وأما شموله للقائلين فلأنهم نهوا أيضا إلا أنهم رأوا عدم النفع فكفوا وذلك
لا يضرهم فقد نصوا على أنه إذا علم الناهي حال المنهي وأن النهي لا يؤثر فيه سقط
عنه النهي وربما وجب الترك على ما قال الزمخشري لدخوله في باب العبث ، ألا ترى أنك
لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على الطريق لأخذ أموال الفقراء وغيرهم بغير حق
لتعظهم وتكفهم عما هم عليه كان ذلك عبثا منك ولم يكن إلا سببا للتلهي بك ، ولم
يعرض أولئك كما أعرض هؤلاء لعدم بلوغهم في اليأس كما بلغ إخوانهم أو لفرط حرصهم
وجدهم في أمرهم كما وصف الله تعالى رسولهصلىاللهعليهوسلم بقوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ
نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) [الكهف : ٦].
وروي عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما أنه قال : لا أدري ما فعلت الفرقة الساكتة وعنى بهم القائلين
ومنشأ قوله هذا كما نطقت به بعض الروايات أنه سمع قوله سبحانه : (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ
السُّوءِ) وقوله جلّ وعلا : (وَأَخَذْنَا
الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي بالاعتداء ومخالفة الأمر ولم يغص رضي الله تعالى عنه مع
أنه الغواص فقال له عكرمة : جعلني الله فداك ألا تراهم كيف أنكروا وكرهوا ما القوم
عليه وقالوا ما قالوا وإن لم يقل الله سبحانه أنجيتهم لم يقل أهلكتهم فأعجبه قوله
وأمر له ببردين وقال : نجت الساكتة ، ونسب الطبرسي إليه رضي الله تعالى عنه قولين
آخرين في الساكتة أحدهما القول بالتوقف وثانيهما القول بالهلاك وبه قال ابن زيد ، وروي
عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه