لذلك وداعيا إليه مع ما فيه من الإشارة إلى شدة غيرته وفرط حميته وليس في ذلك ما يتوهم منه نوع إهانة لكتاب الله تعالى بوجه من الوجوه ، وانكسار بعض الألواح حصل من فعل مأذون فيه ولم يكن غرض موسى عليهالسلام ولا مر بباله ولا ظن ترتبه على ما فعل ، وليس هناك إلا العجلة في الوضع الناشئة من الغيرة لله تعالى ، ولعل ذلك من باب (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) [طه : ٨٤] واختلفت الروايات في مقدار ما تكسر ورفع ، وبعضهم أنكر ذلك حيث إن ظاهر القرآن خلافه. نعم أخرج أحمد وغيره وعبد بن حميد والبزار وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «يرحم الله تعالى موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه تبارك وتعالى أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح فتكسر منها ما تكسر» فتأمل ولا تغفل ، وما روي عن ابن عباس أن موسى عليهالسلام لما ألقى الألواح رفع منها ستة أسباع وبقي سبع ، وكذا ما روي عن غيره نحوه مناف لما روي فيما تقدم من أن التوراة نزلت سبعين وقرأ يقرأ الجزء منه في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر : موسى ويوشع وعزير وعيسى عليهمالسلام. وكذا لما يذكر بعد من قوله تعالى : (أَخَذَ الْأَلْواحَ) فإن الظاهر منه العهد. والجواب بأن الرفع لما فيها من الخط دون الألواح خلاف الظاهر والله تعالى أعلم بحقيقة الحال (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ) أي بشعر رأس هارون عليهالسلام لأنه الذي يؤخذ ويمسك عادة ولا ينافي أخذه بلحيته كما وقع في سورة طه أو أدخل فيه تغليبا (يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) ظنا منه عليهالسلام أنه قصر في كفهم ولم يتمالك لشدة غضبه وفرط غيظه أن فعل ذلك وكان هارون أكبر من موسى عليهماالسلام بثلاث سنين إلا أن موسى أكبر منه مرتبة وله الرسالة والرئاسة استقلالا وكان هارون وزيرا له وكان عليهالسلام حمولا لينا جدا ولم يقصد موسى بهذا الأخذ إهانته والاستخفاف به بل اللوم الفعلي على التقصير المظنون بحكم الرئاسة وفرط الحمية ، والقول بأنه عليهالسلام إنما أخذ رأس أخيه ليسارّه ويستكشف منه كيفية الواقعة مما يأباه الذوق كما لا يخفى على ذويه ، ومثله القول بأن إنما كان لتسكين هارون لما رأى به من الجزع والقلق ، وقال أبو علي الجبائي : إن موسى عليهالسلام أجرى أخاه مجرى نفسه فصنع به ما يصنع الإنسان به عند شدة الغضب ، وقال الشيخ المفيد من الشيعة : إن ذلك للتألم من ضلال قومه وإعلامهم على أبلغ وجه عظم ما فعلوه لينزجروا عن مثله ولا يخفى أن الأمر على هذا من قبيل :
غيري جنى وأنا المعاقب فيكم |
|
فكأنني سبابة المتندم |
ولعل ما أشرنا إليه هو الأولى. وجملة (يَجُرُّهُ) في موضع الحال من ضمير موسى أو من رأس أو من أخيه لأن المضاف جزء منه وهو أحد ما يجوز فيه ذلك ، وضعفه أبو البقاء (قالَ) أي هارون مخاطبا لموسى عليهالسلام إزاحة لظنه (ابْنَ أُمَ) بحذف حرف النداء لضيق المقام وتخصيص الأم بالذكر مع كونهما شقيقين على الأصح للترقيق ، وقيل : لأنها قامت بتربيته وقاست في تخليصه المخاوف والشدائد ، وقيل : إن هارون عليهالسلام كانت آثار الجمال والرحمة فيه ظاهرة كما ينبئ عنه قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) [مريم : ٥٣] وكان مورده ومصدره ذلك ، ولذا كان يلهج بذكر ما يدل على الرحمة ، ألا ترى كيف تلطف بالقوم لما قدموا على ما قدموا فقال : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) [طه : ٩٠] ومن هنا ذكر الأم ونسب إليها لأن الرحمة فيها أتم ولولاها ما قدرت على تربية الولد وتحمل المشاق فيها وهو منزع صوفي كما لا يخفى ، واختلف في اسم أمهما عليهماالسلام فقيل : محيانة بنت يصهر بن لاوى ، وقيل : يوحانذ ، وقيل : يارخا ، وقيل : يازخت ، وقيل : غير ذلك ، ومن الناس من زعم أن لاسمها رضي الله تعالى عنها خاصية في فتح الأقفال وله رياضة مخصوصة عند أرباب الطلاسم والحروف وما هي إلا رهبانية ابتدعوها ما أنزل الله تعالى بها من كتاب.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم هنا وفي [طه : ٩٤](ابْنَ أُمَ) بالكسر وأصله ابن أمي فحذفت الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفا كالمنادى المضاف إلى الياء.