المخلصين بصيغة الفاعل المنبئة عن الرسوخ والاستمرار للإيذان بأن إيمانهم أمر حادث ما له من قرار ولعل العدول عن ـ رحمة ـ لكم إلى ما ذكر للإشارة إلى ذلك. وقرأ ابن أبي عبلة «رحمة» بالنصب على أنه مفعول له لفعل مقدر دل عليه (أُذُنُ خَيْرٍ) أي يأذن لكم ويسمع رحمة وجوز عطفه على آخر مقدر أي تصديقا لهم ورحمة لكم (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ) أي بأي نوع من الإيذاء كان وفي صيغة الاستقبال المشعرة بترتب الوعيد على الاستمرار على ما هم عليه إشعار بقبول توبتهم (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي بسبب ذلك كما ينبئ عنه بناء الحكم على الموصول وجملة الموصول وخبره مسوق من قبله عزوجل على نهج الوعيد غير داخل تحت الخطاب وفي تكرير الإسناد بإثبات العذاب الأليم لهم ثم جعل الجملة خبرا ما لا يخفى من المبالغة وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة مع الإضافة إلى الاسم الجليل لغاية التعظيم والتنبيه على أن أذيته عليه الصلاة والسلام راجعة إلى جنابه عزوجل موجبة لكمال السخط والغضب منه سبحانه. وذكر بعضهم أن الإيذاء لا يختص بحال حياتهصلىاللهعليهوسلم بل يكون بعد وفاته صلىاللهعليهوسلم أيضا وعدوا من ذلك التكلم في أبويه صلىاللهعليهوسلم بما لا يليق وكذا إيذاء أهل بيته رضي الله تعالى عنهم كإيذاء يزيد عليه ما يستحق لهم وليس بالبعيد (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) الخطاب للمؤمنين وكان المنافقون يتكلمون بما لا يليق ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالأيمان ليعذروهم ويرضوا عنهم. أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال : والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا ولئن كان ما يقول محمد صلىاللهعليهوسلم حقا لهم شر من الحمر ، فسمعها رجل من المسلمين فقال : والله إن ما يقول محمد صلىاللهعليهوسلم لحق ولأنت شر من الحمار ، فسعى بها الرجل إلى نبي الله صلىاللهعليهوسلم فأخبره فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال : ما حملك على الذي قلت؟ فجعل يلتعن ويحلف بالله تعالى ما قال ذلك وجعل الرجل المسلم يقول : اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب فأنزل سبحانه في ذلك : (يَحْلِفُونَ) إلخ أي يحلفون لكم أنهم ما قالوا ما نقل عنهم مما يورث أذاة النبي صلىاللهعليهوسلم ليرضوكم بذلك. وعن مقاتل والكلبي أنها نزلت في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول الله صلىاللهعليهوسلم منها أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم من تخلفهم ويعتلون ويحلفون.
وأنكر بعضهم هذا مقتصرا على الأول ولعله رأى ذلك أوفق بالمقام ، وإنما أفرد إرضاءهم بالتعليل مع أن عمدة أغراضهم إرضاء الرسول لله للإيذان بأن ذلك بمعزل عن أن يكون وسيلة لإرضائه عليه الصلاة والسلام وأنهصلىاللهعليهوسلم إنما لم يكذبهم رفقا بهم وسترا لعيوبهم لا عن رضى بما فعلوا وقبول قلبي لما قالوا (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) أي أحق بالإرضاء من غيره ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والموافقة لأمره وإيفاء حقوقه عليه الصلاة والسلام في باب الإجلال والإعظام حضورا وغيبة ، وأما الأيمان فإنما يرضى بها من انحصر طريق علمه في الأخبار إلى أن يجيء الحق ويزهق الباطل ، والجملة في موضع الحال من ضمير (يَحْلِفُونَ) والمراد ذمهم بالاشتغال فيما لا يعنيهم والإعراض عما يهمهم ويجديهم.
وتوحيد الضمير في (يُرْضُوهُ) مع أن الظاهر بعد العطف بالواو التثنية لأن إرضاء الرسول عليه الصلاة والسلام لا ينفك عن إرضاء الله تعالى و (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٩] فلتلازمهما جعلا كشيء واحد فعاد إليهما الضمير المفرد ، أو لأن الضمير مستعار لاسم الإشارة الذي يشار به إلى الواحد والمتعدد بتأويل المذكور ، وإنما لم يثن تأدبا لئلا يجمع بين الله تعالى وغيره في ضمير تثنية : وقد نهي عنه على كلام فيه ، أو لأنه عائد إلى رسوله والكلام جملتان حذف خبر الأولى لدلالة خبر الثانية عليه كما في قوله :
نحن بما عندنا وأنت بما |
|
عندك راض والرأي مختلف |