المحققة وخرافاتهم الملفقة التي يتعللون بها كلما ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل ، وأجيب بأنه لا بعد في تقدير صدور هذه المقالة على تقدير ذلك التنزيل لأنه مما يوقع الكافر المعاند في حيص بيص فلا يدري بما ذا يقابله وأي شيء يتشبث به. وكلمة (لَوْ لا) هنا للتحضيض ، والمقصود به التوبيخ على عدم الإتيان بملك يشاهد معه حتى تنتفي الشبهة بزعمهم.
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال : «دعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم فيما بلغني فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث وأبي بن خلف بن وهب والعاص بن وائل بن هشام : لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك فأنزل الله تعالى قوله سبحانه : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ) إلخ أي هلا أنزل عليه ملك يكون معه يحدث الناس عنه ويخبرهم أنه رسول من ربه سبحانه إليهم ، ولعل هذا نظير ما حكى الله تعالى عنهم بقوله جل شأنه : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) [الفرقان : ٧]. ولما كان مدار هذا الاقتراح على شيئين. إنزال الملك على صورته وجعله معه صلىاللهعليهوسلم يحدث الناس عنه وينذرهم أجيب عنه بأن ذلك مما لا يكاد يوجد لاشتماله على المتباينين فإن إنزال الملك على صورته يقتضي انتفاء جعله محدثا ونذيرا وجعله محدثا ونذيرا يستدعي عدم إنزاله على صورته ، وقد أشير إلى الأول بقوله تعالى : (وَلَوْ أَنْزَلْنا) عليه (مَلَكاً) على صورته الحقيقية فشاهدوه بأعينهم : (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي لأتم أمر إهلاكهم بسبب مشاهدتهم له لمزيد هول المنظر مع ما هم فيه من ضعف القوى وعدم اللياقة.
وقد قيل : إن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهم هم إنما رأوا الملك في صورة البشر ولم يره أحد منهم على صورته غير النبي صلىاللهعليهوسلم رآه كذلك مرتين مرة في الأرض بحياد ومرة في السماء ، ولا يخفى أن هذا محتاج إلى نقل عن الأحاديث الصحيحة ، والذي صح من رواية الترمذي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبيصلىاللهعليهوسلم رأى جبريل عليهالسلام مرتين كما ذكر على صورته الأصلية لكن ليس فيه أن أحدا من إخوانه الأنبياء غيره عليه الصلاة والسلام لم يره كذلك ، ولم يرد هذا ـ كما قال ابن حجر وناهيك به حافظا في شيء ـ من كتب الآثار ، وأما رؤية النبي صلىاللهعليهوسلم وكذا رؤية غيره من الأنبياء غير جبريل عليهالسلام على الصورة الأصلية فهي جائزة بلا ريب ، وظاهر الأخبار وقوعها أيضا لنبينا عليه الصلاة والسلام ، وأما وقوع رؤية سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلم أقف فيها على شيء لا نفيا ولا إثباتا ، وعدم وقوع رؤية جبريل عليهالسلام لو صح لا يدل على عدم رؤية غيره إذ ليست صور الملائكة كلهم كصورته عليه الصلاة والسلام في العظم ، وخبر الخصمين والأضياف لإبراهيم ، ولوط وداود عليهمالسلام ليس فيه دلالة على أكثر من رؤية هؤلاء الأنبياء للملائكة بصورة الآدميين وهي لا تستلزم أنهم لا يرونهم إلا كذلك وإلا لاستلزمت رؤية نبينا صلىاللهعليهوسلم جبريل عليهالسلام بصورة دحية بن خليفة الكلبي رضي الله تعالى عنه مثلا عدم رؤيته عليه الصلاة والسلام إياهم إلا بالصورة الآدمية وهو خلاف ما تفهمه الأخبار ، وبناء الفعل الأول في الجواب للفاعل مسندا إلى نون العظمة مع كونه في السؤال مبنيا للمفعول لتهويل الأمر وتربية المهابة ، وبناء الثاني للمفعول للجري على سنن الكبرياء وكلمة (ثُمَ) في قوله تعالى : (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي لا يمهلون بعد إنزاله ومشاهدتهم له طرفة عين فضلا عن أن يحفظوا منه بكلمة أو يزيلوا به بزعمهم شبهة للتنبيه على بعد ما بين الأمرين قضاء الأمر وعدم الانظار فإن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة ، وقيل : إنها للإشارة إلى أن لهم مهلة قدر أن يتأملوا.
واعترض بأن قوله سبحانه : (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) عطف على قوله عزوجل : (لَقُضِيَ) ولا يمهل للتأمل بعد قضاء الأمر.