الجلال. واعترض شيخ الإسلام على ما تقدم بأن قوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) في موضع التعليل ولا يلائم ما ذكر. و (عَلَّامُ) صيغة مبالغة والمراد الكامل في العلم. و (الْغُيُوبِ) جمع غيب وجمع وإن كان مصدرا على ما قال السمين لاختلاف أنواعه وإن أريد به الشيء الغائب أو قلنا : إنه مخفف غيب فالأمر واضح. وقرئ «علام» بالنصب على أن الكلام قد تم عند (إِنَّكَ أَنْتَ) ونصب الوصف على المدح أو النداء أو على أنه بدل من اسم إن ، ومعنى (إِنَّكَ أَنْتَ) إنك الموصوف بصفاتك المعروفة ، والكلام على طريقه : أنا أبو النجم. وشعري شعري.
وقرأ أبو بكر وحمزة «الغيوب» بكسر الغين حيث وقع وقد سمع في كل جمع على وزن فعول كبيوت كسر أوله لئلا يتوالى ضمتان وواو (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) بدل من (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) وقد نصب بإضمار اذكر ، وقيل : في محل رفع على معنى ذاك إذ وليس بشيء ، وصيغة الماضي لما مر آنفا من الدلالة على تحقق الوقوع ، والمراد بيان ما جرى بينه تعالى وبين فرد من الرسل المجموعين على التفصيل إثر بيان ما جرى بينه عزوجل وبين الكل على وجه الإجمال ليكون ذلك كالأنموذج على تفاصيل أحوال الباقين ، وتخصيص عيسى عليهالسلام بالذكر لما أن شأنه عليه الصلاة والسلام متعلق بكلا فريقي أهل الكتاب المفرطين والمفرطين الذين نعت هذه السورة الكريمة جناياتهم فتفصيله أعظم عليهم وأجلب لحسراتهم ، وإظهار الاسم الجليل لما مر. و (عِيسَى) مبني عند الفراء ومتابعيه إما على ضمة مقدرة أو على فتحة كذلك إجراء له مجرى يا زيد بن عمرو في جواز ضم المنادي وفتحه عند الجمهور ، وهذا إذا أعرب ابن صفة لعيسى ، أما إذا أعرب بدلا أو بيانا فلا يجوز تقدير الفتحة إجماعا كما بين في كتب النحو ، و «على» في قوله تعالى :
(اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) متعلقة بنعمتي جعل مصدرا أي اذكر إنعامي أو بمحذوف وقع حالا من نعمة أن جعل اسما أي اذكر نعمتي كائنة عليك إلخ ، وعلى التقديرين يراد بالنعمة ما هو في ضمن المتعدد وليس المراد كما قال شيخ الإسلام بأمره عليهالسلام يومئذ بذكر النعمة المنتظمة في سلك التعديد تكليفه عليهالسلام بشكرها والقيام بمواجبها ولات حين تكليف مع خروجه عليهالسلام عن عهدة الشكر في أوانه أي خروج بل إظهار أمره عليهالسلام بتعداد تلك النعم حسبما بينه الله تعالى اعتدادا بها وتلذذا بذكرها على رءوس الأشهاد وليكون حكاية ذلك على ما أنبأ عنه النظم الكريم توبيخا للكفرة من الفريقين المختلفين في شأنه عليهالسلام إفراطا وتفريطا وإبطالا لقولهما جميعا (إِذْ أَيَّدْتُكَ) ظرف لنعمتي أي اذكر إنعامي عليكما وقت تأييدي لكما أو حال منها أي اذكرها كائنة وقت ذلك ، وقيل : بدل اشتمال منها وهو في المعنى تفسير لها.
وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولا به على السعة ، وقرئ «آيدتك» بالمد ووزنه عند الزمخشري أفعلتك وعند ابن عطية فاعلتك ، قال أبو حيان : ويحتاج إلى نقل مضارعه من كلام العرب فإن كان يؤايد فهو فاعل وإن كان يؤيد فهو أفعل ومعناه ومعنى أيد واحد ، وقيل : معناه بالمد القوة وبالتشديد النصر وهما ـ كما قيل ـ متقاربان لأن النصر قوة (بِرُوحِ الْقُدُسِ) أي جبريل عليهالسلام أو الكلام الذي يحيى به الدين ويكون سببا للطهر عن أوضار الآثام أو تحيي بها الموتى أو النفوس حياة أبدية أو نفس روحه عليهالسلام حيث أظهرها سبحانه وتعالى روحا مقدسة طاهرة مشرقة نورانية علوية ، وكون هذا التأييد نعمة عليه عليه الصلاة والسلام مما لا خفاء فيه ، وأما كونه نعمة على والدته فلما ترتب عليه من براءتها مما نسب إليها وحاشاها وغير ذلك.
(تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) أي طفلا صغيرا ، وما في النظم الكريم أبلغ من التصريح بالطفولية وأولى لأن الصغير يسمى طفلا إلى أن يبلغ الحلم فلذا عدل عنه ، والظرف في موضع الحال من ضمير «تكلم».