منهما وعظ بوفاء الميزان والمكيال وهو يدل على أنهما واحدة وفيه ما لا يخفى. ومن الناس من زعم أنه عليهالسلام بعث إلى ثلاث أمم ، والثالثة أصحاب الرس. والقول بأنه عليهالسلام كان أعمى لا عكاز له يعتمد عليه بل قد نص العلماء ذوو البصيرة على أن الرسول لا بد أن يكون سليما من منفر ومثلوه بالعمى ، والبرص ، والجذام ، ولا يرد بلاء أيوب. وعمى يعقوب بناء على أنه حقيقي لطروئه بعد الأنباء والكلام فيما قارنه ، والفرق أن هذا منفر بخلافه فيمن استقرت نبوته. وقد يقال : إن صح ذلك فهو من هذا القبيل.
(قالَ) استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية إرساله إليهم كأنه قيل : فما ذا قال لهم؟ فقيل قال: (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) مر تفسيره (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي معجزة عظيمة ظاهرة من مالك أموركم. ولم تذكر معجزته عليهالسلام في القرآن العظيم كما لم تذكر أكثر معجزات نبيناصلىاللهعليهوسلم والأنبياء عليهمالسلام فيه.
والقول بأنه لم يكن له عليهالسلام معجزة غلط لأن الفاء في قوله سبحانه : (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) لترتيب الأمر على مجيء البينة ، واحتمال كونها عاطفة على (اعْبُدُوا) بعيد ، وإن كانت عبادة الله تعالى موجبة للاجتناب عن المناهي التي معظمها بعد الكفر البخس فكأنه قيل : قد جاءتكم معجزة شاهدة بصحة نبوتي أوجبت عليكم الإيمان بها والأخذ بما أمرتكم به فأوفوا إلخ ؛ ولو ادعى مدع النبوة بغير معجزة لم تقبل منه لأنها دعوى أمر غير ظاهر وفيه إلزام للغير ومثل ذلك لا يقبل من غير بينة ومن الناس من زعم أن البينة نفس شعيب. ومنهم من زعم أن المراد بالبينة الموعظة وأنها نفس (فَأَوْفُوا) إلخ وليس بشيء كما لا يخفى. وقال الزمخشري : إن من معجزاته عليهالسلام ما روي من محاربة عصا موسى عليهالسلام التنين حين دفع إليه غنمه وولادة الغنم. الدرع خاصة حين وعده أن يكون له الدرع من أولادها ووقوع عصا آدم عليهالسلام على يده في المرات السبع وغير ذلك من الآيات لأن هذه كلها كانت قبل أن يستنبأ موسى عليهالسلام فكانت معجزات لشعيب اه.
وفيه نظر لأن ذلك متأخر عن المقاولة فلا يصح تفريع الأمر عليه ، ولأنه يحتمل أن يكون كرامة لموسىعليهالسلام أو إرهاصا لنبوته بل في الكشف أن هذا متعين لأن موسى أدرك شعيبا عليهالسلام بعد هلاك قومه ولأن ذلك لم يكن معرض التحدي.
وزعم الإمام أن الإرهاص غير جائز عند المعتزلة ، ولهذا جعل ذلك معجزة لشعيب عليهالسلام نظر فيه الطيبي بأن الزمخشري قال في آل عمران في تكليم الملائكة عليهمالسلام لمريم. إنه معجزة لزكريا أو إرهاص لنبوة عيسىعليهماالسلام ، والمراد بالكيل ما يكاد به مجازا كالعيش بمعنى ما يعاش به. ويؤيده أنه قد وقع في سورة (الْمِكْيالَ) [هود : ٨٤ ، ٨٥] ، وكذا عطف (الْمِيزانَ) عليه هنا ، فإن المتبادر منه الآلة وإن جاز كونه مصدرا بمعنى الوزن كالميعاد بمعنى الوعد ، وقيل : إن الكيل وما عطف عليه مصدران والكلام على الإضمار أي أوفوا آلة الكيل والوزن (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ) أي لا تنقصوهم يقال بخسه حقه إذا نقصه إياه ومنه قيل للمكس البخس. وفي أمثالهم تحسبها حمقاء وهي باخس أي ذات بخس. وتعدى إلى مفعولين أولهما (النَّاسَ) والثاني (أَشْياءَهُمْ) أي الكائنة في المبايعات من الثمن والمبيع ، وفائدة التصريح بالنهي عن النقص بعد الأمر بالإيفاء تأكيد ذلك الأمر وبيان قبح ضده ، وقد يراد بالأشياء الحقوق مطلقا فإنهم كانوا مكّاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوه.
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا قوما طغاة بغاة يجلسون على الطريق فيبخسون الناس أموالهم وكانوا إذا دخل عليهم الغريب يأخذون دراهمه الجياد ويقولون دراهمك هذه زيوف فيقطعونها ثم يشترونها منه بالبخس. وروي أنه يعطونه أيضا بدلها زيوفا فكأنه لما نهوا عن البخس في الكيل والوزن نهوا عن البخس والمكس في كل شيء قيل : ويدخل في ذلك بخس الرجل حقه من حسن المعاملة والتوقير اللائق به وبيان فضله على ما هو عليه