وقيل : اختير الفصل هنا لإرادة استقلال كل من الجمل في معناه حيث إن كفر هؤلاء أعظم من كفر قوم نوح من حيث إنهم علموا ما فعل الله تعالى بالكافرين وأصروا وقوم نوح لم يعلموا. ويدل على علمهم بذلك ما سيأتي في ضمن الآيات وفيه نظر.
(يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وجده كما يدل عليه قوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فإنه استئناف جار مجرى البيان للعبادة المأمور بها والتعليل لها أو للأمر كأنه قيل : خصوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئا إذ ليس لكم إله سواه.
وقرئ «غير» بالحركات الثلاث كالذي قبل (أَفَلا تَتَّقُونَ) إنكار واستبعاد لعدم اتقائهم عذاب الله تعالى بعد ما علموا ما حل بقوم نوح عليهالسلام ، وقيل : الاستفهام للتقرير والفاء للعطف ، وقد تقدم الكلام فيه آنفا وفي سورة (أَفَلا تَعْقِلُونَ) [هود : ٥١] ولعله عليهالسلام ـ كما قال شيخ الإسلام ـ خاطبهم بكل منهما واكتفى بحكاية كل منهما في موطن عن حكايته في موطن آخر كما لم يذكر هاهنا ما ذكر هناك من قوله (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) [هود : ٥٠] وقس على ذلك حال بقية ما ذكروا ما لم يذكر من أجزاء القصة بل حال نظائره في سائر القصص لا سيما في المحاورات الجارية في الأوقات المتعددة.
وقال غير واحد : إنما قيل هاهنا : (أَفَلا تَتَّقُونَ) وفيما تقدم من مخاطبة نوح عليهالسلام قومه (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) لأن هؤلاء قد علموا بما حل بغيرهم من نظرائهم ولم يكن قبل واقعة قوم نوح عليهالسلام واقعة ، وقيل : لأن هؤلاء كانوا أقرب إلى الحق وإجابة الدعوة من قوم نوح عليهالسلام وهذا دون (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إلخ في التخويف ، ويرشد إلى ذلك ما تقدم مع قوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) حيث قيد هنا الملأ المعاند بمن كفر وأطلق هناك ، وقد صرحوا بأن هذا الوصف لأنه لم يكن كلهم على الكفر بل من أشرافهم من آمن به عليهالسلام كمرثد بن سعد الذي كان يكتم إيمانه ولا كذلك قوم نوح ومن آمن بهعليهالسلام منهم لم يكن من الأشراف كما هو الغالب في اتباع الرسل عليهمالسلام ، وقيل : إنه وقت مخاطبة نوح عليهالسلام لقومه لم يكونوا آمنوا بخلاف قوم هود ومثله ـ كما قال الشهاب ـ يحتاج إلى نقل. واعترض المولى بهاء الدين على تلك التفرقة بين القومين بأنه قد جاء في سورة المؤمنين وصف قوم نوح بما وصف به قوم هود هنا فكيف تتأتى هذه التفرقة ، وأجيب بأن الوصف هناك محمول على أنه للذم لا للتمييز وإنما لم يذم هاهنا للإشارة إلى التفرقة. وقال الطيبي : يمكن أن يقال : إن الوصف هنا للذم أيضا ومقتضى المقام يقتضي ذمهم لشدة عنادهم كما يدل عليه جوابهم بما حكاه الله تعالى من قولهم : (إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) أي متمكنا في خفة عقل راسخا فيها حيث فارقت دين آبائك (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) حيث ادعيت الرسالة وهو أبلغ من كاذبا كما مرت الإشارة إليه. والظن إما على ظاهره كما قال الحسن والزجاج وإما بمعنى العلم كما قيل ، وذلك لأنه قالوا ما قالوا ما قالوا مع كونه عليهالسلام معروفا بينهم بضد ذلك ولا يقتضي ذم قوم نوح عليهالسلام وحيث اقتضى في سورة المؤمنين ذمهم ذمهم لأنهم قالوا كما قصة سبحانه وتعالى هناك (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) [المؤمنون : ٢٥] وقال بعضهم : إن الظاهر أن ما نقل هنا عن قوم نوح عليهالسلام مقالتهم في مجلس أو مقالة بعضهم وما نقل في سورة المؤمنين مقالتهم في مجلس آخر أو مقالة آخرين فروعي في المقامين مقتضى كل من المقالتين (قالَ) عليهالسلام مستعطفا لهم أو مستميلا لقلوبهم : (يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ) أي شيء منها فضلا عن تمكني فيها كما زعمتم (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) والرسالة من قبله تعالى تقتضي الاتصاف بغاية الرشد والصدق ، ولم يصرح عليهالسلام بنفي الكذب اكتفاء بما في حيز الاستدراك.