(قالَ) أي قال يا إبليس اخرج ويا آدم اسكن لأن ذلك في مقام الاستئناف والجزاء لما حلف عليه اللعين وهذا من تتمة الامتنان على بني آدم والكرامة لأبيهم ، ولا على ما بعد (قُلْنا) لأنه يؤول إلى قلنا للملائكة يا آدم.
وادعى بعضهم أن الذي يقتضيه الترتيب العطف على ما بعد (قالَ) وبينه بماله وجه إلا أنه خلاف الظاهر ، وتصدير الكلام بالنداء للتنبيه على الاهتمام بالمأمور به ، وتخصيص الخطاب بآدم عليهالسلام للإيذان بأصالته بالتلقي وتعاطي المأمور به. و (اسْكُنْ) من السكنى وهو اللبث والإقامة والاستقرار دون السكون الذي هو ضد الحركة ، وقد تقدم الكلام في ذلك وفي قوله سبحانه : (أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وتوجيه الخطاب إليهما في قوله تعالى : (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) لتعميم التشريف والإيذان بتساويهما في مباشرة المأمور به فإن حواء أسوة له عليهالسلام في حق الأكل بخلاف السكنى فإنها تابعة له فيها ولتعليق النهي الآتي بهما صريحا ، والمعنى : فكلا منها حيث شئتما كما في البقرة ، ولم يذكر (رَغَداً) [البقرة : ٣٥ ، ٥٨] هنا ثقة بما ذكر هناك.
وقوله سبحانه : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) مبالغة في النهي عن الأكل منها وقرئ «هذي» وهو الأصل إلا أنه حذفت الياء وعوض عنها الهاء فهي هاء عوض لا هاء سكت. قال ابن جني : ويدل على أن الأصل هو الياء قولهم في المذكر : ذا والألف بدل من الياء إذ الأصل ذي بالتشديد بدليل تصغيره على ذيا وإنما يصغر الثلاثي دون الثنائي كما ومن فحذفت إحدى الياءين تخفيفا ثم أبدلت الأخرى ألفا كراهة أن يشبه آخره آخر كي.
(فَتَكُونا) أي فتصيرا (مِنَ الظَّالِمِينَ) أي الذين ظلموا أنفسهم ، وتكونا يحتمل الجزم على العطف على (تَقْرَبا) والنصب على أنه جواب النهي (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) أي فعل الوسوسة لأجلهما أو ألقى إليهما الوسوسة وهي في الأصل الصوت الخفي المكرر ، ومنه قيل لصوت الحلي : وسوسة ، وقد كثرت فعللة في الأصوات كهينمة وهمهمة وخشخشة ، وتطلق على حديث النفس أيضا وفعلها وسوس وهو لازم ويقال : رجل موسوس بكسر الواو ولا تفتح على ما قاله ابن الأعرابي. وقال غيره : يقال موسوس بالفتح وموسوس إليه فيكون الأول على الحذف والإيصال والكلام في كيفية وسوسة اللعين قد تقدمت الإشارة إليه في سورة البقرة.
(لِيُبْدِيَ لَهُما) أي ليظهر لهما ، واللام إما للعاقبة لأن الشيطان لم يقصد بوسوسته ذلك ولم يخطر له ببال وإنما آل الأمر إليه. وإما للتعليل على ما هو الأصل فيها ، ولا يبعد أنه أراد بوسوسته أن يسوءهما بانكشاف عورتيهما ولذلك عبر عنهما بالسوأة ، ويكون هذا مبينا على الحدس أو العلم بالسماع من الملائكة أو الاطلاع على اللوح. قيل : وفي ذلك دليل على أن كشف العورة في الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع.
(ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) أي ما غطي وستر عنهما من عوراتهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر وكانت مستورة بالنور على ما أخرجه الحكيم الترمذي وغيره عن وهب بن منبه أو بلباس كالظفر على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي ، وجمع السوءات على حد (صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤] واعتبار الاجزاء بعيد ، والمتبادر من هذا الكلام حقيقته : وقيل هو كناية عن إزالة الحرمة وإسقاط الجاه ، و (وُورِيَ) بواوين ماضي وارى كضارب وضورب أبدلت ألفه واوا فالواو الأولى فاء الكلمة والثانية زائدة.
وقرأ عبد الله «أورى» بالهمزة لأن القاعدة إذ اجتمع واوان في أول كلمة فإن تحركت الثانية أو كان لها نظيرا متحرك وجب إبدال الأولى همزة تخفيفا مثال الأول أو يصل وأواصل في تصغير واصل وتصغيره ومثال الثاني أولى أصله وولى فأبدلت الأولى لما تحركت الثانية في الجمع وهو أول فإن لم يتحرك بالفعل أو القوة جاز الإبدال وعدمه كما هنا قاله الشهاب نقلا عن النحاة. وقرئ «سوأتهما» بالإفراد والهمزة على الأصل و «سوتهما» بإبدال الهمزة واوا