على لهب النار وجمرها لنعذبهم كما لم يؤمنوا به أول مرة في الدنيا. والكل كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، وهكذا غالب كلام المعتزلة (وَنَذَرُهُمْ) أي ندعهم : (فِي طُغْيانِهِمْ) أي تجاوزهم الحد في العصيان (يَعْمَهُونَ) أي يترددون متحيرين وهذا عطف على «لا يؤمنون» مقيد بما قيد به أيضا مبين لما هو المراد بتقليب الأفئدة والأبصار معرب عن حقيقته بأنه ليس على ظاهره. والجار متعلق بما عنده. وجملة (يَعْمَهُونَ) في موضع الحال من الضمير المنصوب في نذرهم. وقرئ «يقلب. ويذر» على الغيبة والضمير لله عزوجل. وقرأ الأعمش «وتقلّب» على البناء للمفعول وإسناده إلى أفئدتهم.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات : (وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) قال الجنيدقدسسره : أي أخلصناهم وآويناهم لحضرتنا ودللناهم للاكتفاء بنا عما سوانا (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وهم أهل السابقة الذين سألوه سبحانه الهداية بلسان الاستعداد الأزلي (وَلَوْ أَشْرَكُوا) بالميل إلى السوي وهو شرك الكاملين كما أشار إليه سيدي عمر بن الفارض قدسسره بقوله :
ولو خطرت لي في سواك إرادة |
|
على خاطري سهوا حكمت بردتي |
(لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) لعظم ما أتوا به إن الشرك لظلم عظيم (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) وهم المحجوبون (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) وهم العارفون بالله عزوجل الذين هم خزائن حقائق الإيمان.
وفي الخبر «لا يزال طائفة من أمتي قائمين بأمر الله تعالى لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله سبحانه وهم على ذلك» (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ) وهو آداب الشريعة والطريقة والحقيقة (اقْتَدِهْ) أمر له صلىاللهعليهوسلم أن يتصف بجميع ما تفرق فيهم من ذلك الهدى وكان ذلك ـ على ما قيل ـ في منازل الوسائط ، ولما كحل عيون أسراره بكحل الربوبية جعله مستقلا بذاته مستقيما بحاله وأخرجه من حد الإرادة إلى حد المعرفة والاستقامة ولذا أمره عليه الصلاة والسلام بإسقاط الوسائط كما يشير إليه قوله سبحانه : (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) [الأعراف : ٢٠٣] مع قوله صلىاللهعليهوسلم : لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي». وقال بعض العارفين ليس في هذا توسيط الوسائط لأنه أمر بالاقتداء بهداهم لا بهم. ونظيره (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) [النحل : ١٢٣] حيث لم يقل سبحانه أن اتبع إبراهيم (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عرفوه حق معرفته (إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) أي لم يظهر من علمه وكلامه سبحانه على أحد شيئا وذلك لزعمهم البعد من عباده جل شأنه وعدم إمكان ظهور بعض صفاته على مظهر بشري ولو عرفوا لما أنكروا ولا اعتقدوا أنه لا مظهر لكمال علمه وحكمته إلا الإنسان الكامل بل لو ارتفع الحول عن العين لما رأوا الواحد اثنين (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) لما فيه من أسرار القرب والوصال والتشويق إلى الحسن والجمال بل منه تجلى الحق لخلقه لو يعلمون.
(مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من التوراة والإنجيل لجمعه الظاهر والباطن على أتم وجه (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) وهي القلب (وَمَنْ حَوْلَها) من القوى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) كمن ادعى الكمال والوصول إلى التوحيد والخلاص عن كثرة صفات النفس وزعم أنه بالله عزوجل وأنه من أهل الإرشاد وهو ليس كذلك (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) كمن سمى مفتريات وهمه وخياله ومخترعات عقله وفكره وحيا وفيضا من الروح القدسي فتنبأ لذلك (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) كمن تفرعن وادعى الألوهية (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ) وهم هؤلاء الأصناف الثلاثة (فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) الطبيعي (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) بقبض أرواحهم كالمتقاضي الملظ يقولون (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) تغليظا وتعنيفا عليهم (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ)