ميت ليس فيه روح مثل الخشبة اليابسة والحجر اليابس ، ففي التعبير بذلك دون أصناما التنبيه السابق أيضا إلا أن الظاهر أن وصف الأصنام بكونهم أمواتا مجاز ، وقيل : سماها الله تعالى إناثا لضعفها وقلة خيرها وعدم نصرها ، وقيل : لاتضاع منزلتها وانحطاط قدرها بناء على أن العرب تطلق الأنثى على كل ما اتضعت منزلته من أي جنس كان ، وقيل : كان في كل صنم شيطانة تتراءى للسدنة وتكلمهم أحيانا فلذلك أخبر سبحانه أنهم ما يعبدون من دون إلا إناثا ؛ وروي ذلك عن أبيّ بن كعب ، وقيل : المراد الملائكة لقولهم : الملائكة بنات الله عز اسمه ، وروي ذلك عن الضحاك ، وهو جمع أنثى ـ كرباب وربي ـ في لغة من كسر الراء.
وقرئ ـ إلا أنثى ـ على التوحيد ـ وإلا أنثى ـ بضمتين كرسل ، وهو إما صفة مفردة مثل امرأة جنب ، وإما جمع أنيث كقليب وقلب ، وقد جاء حديد أنيث ، وإما جمع إناث كثمار وثمر ، وقرئ ـ وثنا وأثنا ـ بالتخفيف والتثقيل ، وتقديم الثاء على النون ـ جمع وثن ـ كقولك : أسد وأسد ، وأسد ووسد ، وقلبت الواو ألفا كأجوه في وجوه.
وأخرج ابن جرير أنه كان في مصحف عائشة رضي الله تعالى عنها ـ إلا أوثانا ـ (وَإِنْ يَدْعُونَ) أي وما يعبدون بعبادة تلك الأوثان (إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) إذ هو الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم فكانت طاعتهم له عبادة. فالكلام محمول على المجاز فلا ينافي الحصر السابق ، وقيل : المراد من يدعون يطيعون فلا منافاة أيضا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أنه قال : «ليس من صنم إلا فيه شيطان» والظاهر أن المراد من الشيطان هنا إبليس ، وهو المروي عن مقاتل وغيره ، والمريد والمارد والمتمرد : العاتي الخارج عن الطاعة ، وأصل مادة ـ م ر د ـ للملامسة والتجرد ، ومنه (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) [النمل : ٤٤] وشجرة مرداء للتي تناثر ورقها ، ووصف الشيطان بذلك إما لتجرده للشر أو لتشبيهه بالأملس الذي لا يعلق به شيء ، وقيل : لظهور شره كظهور ذقن الأمرد وظهور عيدان الشجرة المرداء (لَعَنَهُ اللهُ) أي طرده وأبعده عن رحمته ، وقيل : المراد باللعنة فعل ما يستحقها به من الاستكبار عن السجود كقولهم : أبيت اللعن أي ما فعلت ما تستحقه به ، والجملة في موضع نصب صفة ثانية لشيطان.
وجوز أبو البقاء أن تكون مستأنفة على الدعاء فلا موضع لها من الإعراب.
(وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) عطف على الجملة المتقدمة ، والمراد شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله تعالى وهذا القول الشنيع الصادر منه عند اللعن ، وجوز أن تكون في موضع الحال بتقدير قد أي وقد قال ، وأن تكون مستأنفة مستطردة كما أن ما قبلها اعتراضية في رأي ، والجار والمجرور إما متعلق بالفعل ، وإما حال مما بعده ، واختاره البعض ، والاتخاذ أخذ الشيء على وجه الاختصاص ، وأصل معنى الفرض القطع. وأطلق هنا على المقدار المعين لاقتطاعه عما سواه ، وهو كما أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك ، وابن المنذر عن الربيع من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ، والظاهر أن هذا القول وقع نطقا من اللعين ، وكأنه عليه اللعنة لما نال من آدم عليهالسلام ما نال طمع في ولده ، وقال ذلك ظنا ، وأيد بقوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) [سبأ : ٢٠] ، وقيل : إنه فهم طاعة الكثير له مما فهمت منه الملائكة حين قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠] وادعى بعضهم أن هذا القول حالي كما في قوله :
امتلأ الحوض. وقال : قطني |
|
مهلا رويدا قد ملأت بطني |
وفي هذه الجمل ما ينادي على جهل المشركين وغاية انحطاط درجتهم عن الانخراط في سلك العقلاء على أتم وجه وأكمله ، وفيها توبيخ لهم كما لا يخفى (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) عن الحق (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) الأماني الباطلة ، وأقول لهم : ليس وراءكم بعث ولا نشر ولا جنة. ولا نار ولا ثواب ولا عقاب فافعلوا ما شئتم وقيل : أمنيهم بطول البقاء في الدنيا