صلته ، فالحمل حينئذ ظاهر ، والمجادلة أشد المخاصمة وأصلها من الجدل وهو شدة الفتل ، ومنه قيل للصقر : أجدل والمعنى هبوا أنكم بذلتم الجهد في المخاصمة عمن أشارت إليه الأخبار في الدنيا.
(فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي فمن يخاصمه سبحانه عنهم يوم لا يكتمون حديثا ولا يغني عنهم من عذاب الله تعالى شيء (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ) يومئذ (وَكِيلاً) أي حافظا ومحاميا من بأس الله تعالى وعقابه ، وأصل معنى الوكيل الشخص الذي توكل الأمور له وتسند إليه ، وتفسيره بالحافظ المحامي مجاز من باب استعمال الشيء في لازم معناه ، و (أَمْ) هذه منقطعة كما قال السمين ، وقيل : عاطفة كما نقله في الدر المصون ، والاستفهام كما قال الكرخي : في الموضعين للنفي أي لا أحد يجادل عنهم ولا أحد يكون عليهم وكيلا.
(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) أي شيئا يسوء به غيره كما فعل بشير برفاعة أو طعمة باليهودي (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بما يختص به كالإنكار ، وقيل : السوء ما دون الشرك ، والظلم الشرك ، وقيل : السوء الصغيرة ، والظلم الكبيرة. (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) بالتوبة الصادقة ولو قبل الموت بيسير (يَجِدِ اللهَ غَفُوراً) لما استغفره منه كائنا ما كان (رَحِيماً) متفضلا عليه ، وفيه حث لمن فيهم نزلت الآية من المذنبين على التوبة والاستغفار ، قيل : وتخويف لمن لم يستغفر ولم يتب بحسب المفهوم فإنه يفيد أن من لم يستغفر حرم من رحمته تعالى وابتلي بغضبه (وَمَنْ يَكْسِبْ) أي يفعل (إِثْماً) ذنبا من الذنوب (فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) بحيث لا يتعدى ضرره إلى غيرها فليحترز عن تعريضها للعقاب والوبال (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بكل شيء ومنه الكسب (حَكِيماً) في كل ما قدر وقضى ، ومن ذلك لا تحمل وازرة وزر أخرى ، وقيل : (عَلِيماً) بالسارق (حَكِيماً) في إيجاب القطع عليه ، والأول أولى (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً) أي صغيرة ، أو ما لا عمد فيه من الذنوب.
وقرأ معاذ بن جبل (يَكْسِبْ) بكسر الكاف والسين المشددة وأصله يكتسب (أَوْ إِثْماً) أي كبيرة ، أو ما كان عن عمد ، وقيل : الخطيئة الشرك والإثم ما دونه ، وفي الكشاف : الإثم الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب ، والهمزة فيه بدل من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها بإحباطه ، وفي الكشف كأن هذا أصله ، ثم استعمل في مطلق الذنب في نحو قوله تعالى : (كَبائِرَ الْإِثْمِ) [الشورى : ٣٧ ، النجم : ٣٢] ، ومن هذا يعلم ضعف ما ذكره صاحب القيل (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ) أي يقذف به ويسنده ، وتوحيد الضمير لأنه عائد على أحد الأمرين لا على التعيين كأنه قيل : (ثُمَّ يَرْمِ) بأحد الأمرين ، وقيل : إنه عائد على (إِثْماً) فإن المتعاطفين ـ بأو ـ يجوز عود الضمير فيما بعدهما على المعطوف عليه نحو (إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١] وعلى المعطوف نحو (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها) [التوبة : ٣٤] ، وقيل : إنه عائد على الكسب على حد (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] ، وقيل : في الكلام حذف أي ـ يرم بها وبه ـ و (ثُمَ) للتراخي في الرتبة ، وقرئ بهما (بَرِيئاً) مما رماه به ليحمله عقوبة العاجلة كما فعل من عنده الدرع بلبيد بن سهل ، أو بأبي مليك (فَقَدِ احْتَمَلَ) بما فعل من رمي البريء ، وقصده تحميل جريرته عليه وهو أبلغ من حمل ، وقيل : افتعل بمعنى فاقتدر وقدر (بُهْتاناً) وهو الكذب على الغير بما يبهت منه ويتحير عند سماعه لفظاعته ، وقيل : هو الكذب الذي يتحير في عظمه ، والماضي ـ بهت ـ كمنع ، ويقال في المصدر : بهتا وبهتا وبهتا (وَإِثْماً مُبِيناً) أي بينا لا مرية فيه ولا خفاء وهو صفة ـ لإثما ـ وقد اكتفي في بيان عظم البهتان بالتنكير التفخيمي على أن وصف الإثم بما ذكر بمنزلة وصف البهتان به لأنهما عبارة عن أمر واحد هو رمي البريء بجناية نفسه.
وعبر عنه بهما تهويلا لأمره وتفظيعا لحاله فمدار العظم والفخامة كون المرمي به للرامي فإن رمي البريء بجناية