التسلية إلا أن المقصود التعريض بهم إذ حسبوا ما ذكر ، وإما لكل من يتأتى منه الحسبان قصدا إلى إشاعة فظاعة حالهم ، والموصول مفعول ، و (أَنَّما نُمْلِي) إلخ بدل اشتمال منه ، وحيث كان المقصود بالذات هو البدل وكان هنا مما يسدّ مسدّ المفعولين جاز الاقتصار على مفعول واحد ؛ وإلا فالاقتصار لو لا ذلك غير صحيح على الصحيح ، ويجوز أن يكون (أَنَّما نُمْلِي) مفعولا ثانيا إلا أنه لكونه في تأويل المصدر لا يصح حمله على الذوات فلا بد من تقدير ، أما في الأول أي لا تحسبن حال الذين كفروا وشأنهم ، وأما في الثاني أي لا تحسبن الذين كفروا أصحاب (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ) إلخ ، وإنما قيد الخير بقوله تعالى : (لِأَنْفُسِهِمْ) لأن الإملاء خير للمؤمنين لما فيه من الفوائد الجمة ، ومن جعل خيرا فيما نحن فيه أفعل تفضيل ، وجعل المفضل عليه القتل في سبيل الله تعالى جعل التفضيل مبنيا على اعتبار الزعم والمماشاة ، والآية نزلت في مشركي مكة ـ وهو المروي عن مقاتل ؛ أو في قريظة والنضير ـ وهو المروي عن عطاء (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) استئناف بما هو العلة للحكم قبلها ، والقائلون بأن الخير والشر بإرادته تعالى يجوزون التعليل بمثل هذا ، إما لأنه غرض وإما لأنه مراد مع الفعل فيشبه العلة عند من لم يجوز تعليل أفعاله بالأغراض. وأما المعتزلة فإنهم وإن قالوا بتعليلها لكن القبيح ليس مرادا له تعالى عندهم ومطلوبا وغرضا ، ولهذا جعلوا ازدياد الإثم هنا باعثا نحو قعدت عن الحرب جبنا لا غرضا يقصد حصوله ، ولما لم يكن الازدياد متقدما على الإملاء هنا ، والباعث لا بد أن يكون متقدما جعلوه استعارة بناء على أن سبقه في علم الله تعالى القديم الذي لا يجوز تخلف المعلوم عنه شبهه يتقدم الباعث في الخارج ولا يخفى تعسفه ، ولذا قيل : إن الأسهل القول بأن اللام للعاقبة.
واعترض بأنه وإن كان أقل تكلفا إلا أن القول بها غير صحيح لأن هذه الجملة تعليل لما قبلها فلو كان الإملاء لغرض صحيح يترتب عليه هذا الأمر الفاسد القبيح لم يصح ذلك ولم يصلح هذا تعليلا لنهيهم عن حسبان الإملاء لهم خيرا فتأمل قاله بعض المحققين.
وقرأ يحيى بن وثاب بفتح (أَنَّما) هذه وكسر الأولى وبياء الغيبة في (يَحْسَبَنَ) على أن (الَّذِينَ كَفَرُوا) فاعل (يَحْسَبَنَ) و (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) قائم مقام مفعولي الحسبان ، والمعنى (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أن إملاءنا لهم لازدياد الإثم بل للتوبة والدخول في الإيمان وتدارك ما فات ، (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) اعتراض بين الفعل ومعموله ومعناه أن إملاءنا خير لهم إن انتبهوا وتابوا. والفرق بين القراءتين أن الإملاء على هذه القراءة لإرادة التوبة والإملاء للازدياد منفي ، وعلى القراءة الأخرى هو مثبت ، والآخر منفي ضمنا ولا تعارض بينهما لأنه عند أهل السنة يجوز إرادة كل منهما ولا يلزم تخلف المراد عن الإرادة لأنه مشروط بشروط كما علمت.
وزعم بعضهم أن جملة (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ) إلخ حالية أي لا يحسبن في هذه الحالة هذا ، وهذه الحالة منافية له وليس بشيء (لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) جملة مبتدأة مبينة لحالهم في الآخرة إثر بيان حالهم في الدنيا أو حال من الواو أي ليزدادوا إثما معدا لهم عذاب مهين وهذا متعين في القراءة الأخيرة ـ كما ذهب إليه غير واحد من المحققين ـ ليكون مضمون ذلك داخلا في حيز النهي عن الحسبان بمنزلة أن يقال : (لِيَزْدادُوا إِثْماً) وليكون لهم عذاب ، وجعلها بعضهم معطوفة على جملة (لِيَزْدادُوا) بأن يكون (عَذابٌ مُهِينٌ) فاعل الظرف بتقدير ويكون (لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) وهو من الضعف بمكان ، نعم قيل : بجواز كونها اعتراضية وله وجه في الجملة هذا وإنما وصف عذابهم بالإهانة لأنه ـ كما قال شيخ الإسلام ـ لما تضمن الإملاء التمتع بطيبات الدنيا وزينتها وذلك مما يستدعي التعزز والتجبر وصفه به ليكون جزاؤهم جزاء وفاقا ـ قاله شيخ الإسلام ـ ويمكن أن يقال : إن ذلك إشارة إلى رد ما يمكن أن يكون منشأ لحسبانهم وهو أنهم أعزة لديه عزوجل إثر الإشارة إلى ردّه بنوع آخر.